التّفسير:
الجميع مخلوقون من نفس واحدة:
مرّة أخرى تستعرض آيات القرآن الكريم عظمة خلق الله ،وتبيّن في نفس الوقت بعض النعم الأخرى التي منّ بها الله سبحانه وتعالى على الإنسان .
في البداية تتحدّث عن خلق الإنسان وتقول: ( خلقكم من نفس واحدة ثمّ جعل منها زوجها ): خلق كلّ بني آدم من نفس واحدة إشارة إلى مسألة خلق آدم أبي البشر ،إذ أنّ كل البشر وبتنوع خلقتهم وأخلاقهم وطبائعهم واستعداداتهم وأذواقهم المختلفة يعودون في الأصل إلى آدم( عليه السلام )
وعبارة: ( ثمّ جعل منها زوجها ) إشارة إلى أن الله خلق آدم في البداية ،ثمّ خلق حواء ممّا تبقى من طينته .وعلى هذا الأساس فإنّ عملية خلق حواء تمّت بعد خلق آدم ،وقبل خلق أبناء آدم .
عبارة( ثمّ ) لا تأتي دائماً كتأخير للزمان ،وإنّما تأتي أحياناً كتأخير للبيان ،فمثلا يقال: رأيت ما عملته اليوم ثمّ رأيت ما عملته بالأمس ،في حين أنّ عمل الأمس قد نفذ قبل عمل اليوم ،ولكن المراد هنا أنّ مشاهدته تمّت بعد عمل اليوم .
والبعض اعتبر الآية المذكورة أعلاه تشير إلى ( عالم الذّر ) وخلق أبناء آدم بعد خلق آدم وقبل خلق حواء بشكل أرواح ،هذا التّفسير غير صحيح ،وقد بيّنا هذا في تفسير وتوضيح «عالم الذّر » في ذيل الآية ( 172 ) من سورة الأعراف .
وممّا يجدر ذكره أنّ زوجة آدم( عليه السلام ) لم تخلق من أي جزء منه ،وإنّما خلقت ممّا تبقى من طينته التي خلق منها ،وذلك كما ورد في الرّوايات الإسلامية ،وأمّا الرّوايات التي تقول بأنّها خلقت من ضلع آدم الأيسر ،فإنّه كلام خاطئ مأخوذ من بعض الرّوايات الإِسرائيلية ،ومطابق في نفس الوقت لما جاء في الفصل الثّاني من كتاب التّوراة ( سفر التكوين ) المحرّف ،إضافة إلى كونه مخالفاً للواقع والعقل ،إذ أنّ تلك الرّوايات ذكرت أنّ أحد أضلاع آدم قد أخذ وخلقت منه حواء ،ولهذا فإنّ الرجال ينقصهم ضلع في جانبهم الأيسر ،في حين أنّنا نعلم بعدم وجود أيّ فارق بين عدد أضلع المرأة والرجل ،وهذا الاختلاف ليس أكثر من خرافة .
بعد هذا ينتقل الحديث إلى مسألة خلق أربعة أنواع من الأنعام تؤمّن للإنسان ضروريات الحياة ،حيث يستفيد من جلودها لملابسه ،ومن حليبها ولحمها لغذائه ،ومن جهة أخرى يصنع من جلودها وأصوافها عدّة أُمور يستفيد منها في حياته ،ومن جهة ثالثة يستخدمها كوسيلة لتنقّله وحمل أثقاله: ( وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ) والمقصود من ( الأزواج الثمانية ) الذكر والأنثى لكلّ من الإِبل والبقر والضأن والمعز ،ومن هنا فإنّ كلمة ( زوج ) تطلق على كلّ من الذكر والأنثى ،ولهذا فأنّ عدده يكون ثمانية أزواج .( ولذا في بداية الآية هذه اُطلقت كلمة زوج على حواء ) .
وعبارة( أنزل لكم ) والتي تخص هنا الأنعام الأربعةكما بيّنا ذلك من قبللا تعني فقط إنزال الشيء من مكان عال ،وإنّما في مثل هذه الحالات تعني ( تدني المقام ) والنعم من مقام أعلى إلى أدنى .
كما ذكروا احتمالا آخر في أن ( إنزال ) مشتقّة هنا من ( نزل ) على وزن ( رسل ) وتعني ضيافة الضيف ،أو أوّل ما يقدم للضيف ،ونظير هذا المعنى ورد في الآية ( 198 ) من سورة ال عمران بخصوص أهل الجنّة ،قال تعالى: ( خالدين فيها نزلا من عند الله ) .
وقد ذهب بعض المفسّرين الى أنّ الأنعام الأربعة مع أنّها لم تنزل من مكان أعلى إلى الأرض ،فأنّ مقدّمات توفير متطلبات حياتها وتربيتها والتي هي قطرات المطر وأشعة الشمس هي التي تنزل من الأعلى إلى الأرض .
وورد تفسير رابع لهذه العبارة هو أنّ كلّ الموجودات كانت من البداية موجودة في خزائن علم وقدرة البارئ عز وجل ،أي في علم الغيب ،ثمّ انتقلت من الغيب إلى الشهادة أي إلى ( الظهور ) ،ولهذا أطلقوا على هذا الانتقال عبارة ( الإنزال ) كما ورد ذلك في الآية ( 21 ) في سورة الحجر: ( و إن من شيء إلاّ عندنا خزائنه وما ننزله إلاّ بقدر معلوم ) .
لكنّ التّفسير الأوّل أكثر مناسبة من غيره ،رغم عدم وجود أي تعارض بين هذه التفاسير ،بل من الممكن أن تصب جميعها في نفس المفهوم والمعنى .
وورد عن أمير المؤمنين( عليه السلام ) حديث في تفسير هذه الآية جاء فيه: «إنزاله ذلك خلقه إياه » أي أن إنزال تلك الأزواج الثمانية من الأنعام يعني خلقها من قبل الله .ظاهر الحديث يشير إلى التّفسير الأوّل ،لأنّ الله سبحانه وتعالى هو خالق الخلق ،وله المقام الأسمى والأرفع .
وعلى أية حال ،فرغم أنّ الأنعام المذكورة قليلا ما يستفاد منها اليوم في عمليات النقل وحمل الأثقال ،لكنّها تقوم بمنافع مهمّة أخرى يزداد ويتسع حجم الاحتياج إليها يوماً بعد آخر ،لأنّها تغطي اليوم الجانب الأعظم من احتياجات الإنسان الغذائية كالحليب واللحوم ،إضافة إلى أصوافها وجلودها التي كانت منذ السابق وحتى يومنا هذا تستخدم في صناعة الألبسة وغيرها من الأُمور التي يحتاج إليها الإنسان ،حتى أنّ أحد المنابع المالية المهمّة بيد الدول الكبيرة في العالم يأتي عن طريق تربية وتكثير هذه الحيوانات .
ثمّ تتطرق الآيات إلى حلقة أخرى من حلقات خلق الله ،وهي عملية نمو الجنين إذ تقول الآية: ( يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث ): يتضح أنّ المقصود من ( خلقاً من بعد خلق ) هو الخلق المتكرر والمستمر ،وليس الخلق مرتين فقط .
«يخلقكم »: فعل مضارع يعطي معنى الاستمرارية ،وهو هنا بمثابة إشارة قصيرة ذات معان عميقة إلى التحولات العجيبة والصور المختلفة التي تطرأ على الجنين في مراحل وجوده المختلفة في بطن الأُم .وطبقاً لأقوال علماء علم الأجنّة فإنّ عملية خلق ونمو الجنين في بطن الأُمّ تعدّ من أعجب وأدقّ صور خلق البارئ عز وجل ،ونادراً ما نلاحظ أنّ المطلعين على دقائق هذه القضايا لا تلهج ألسنتهم بحمد الخالق وثنائه .
وقوله ( ظلمات ثلاث )إشارة إلى ظلمة بطن الأمّ وظلمة الرحم وظلمة المشيمة ( الكيس الخاص الذي يستقر فيه الجنين ) التي هي في الحقيقة ثلاثة أغلفة سميكة تغطي الجنين .
فالمصورونالآنبحاجة إلى ضوء ساطع ونور من أجل التصوير ،أمّا خالق الإنسان فيخطط في تلك الظلمة بشكل عجيب ويصور بشكل يدهش العقول ،ويمدّه بأسباب العيش في مكان لا يمكن لأحد أن يوصل إليه رزقه الذي هو في أمسّ الحاجة إليه للنمو .
الإمام الحسين( عليه السلام ) سيد الشهداء يقول في دعائه المعروف بدعاء عرفه ،الذي يعدّ دورة دراسية كاملة وعالية في التوحيد ،يقول عند استعراضه للنعم التي منّ بها الباري عز وجل عليه: «وابتدعت خلقي من مني يمنى ،ثمّ أسكنتني في ظلمات ثلاث: بين لحم وجلد ودم لم تشهدني خلقي ،ولم تجعل إليّ من أمري ثمّ أخرجتني إلى الدنيا تامّاً سويّاً » .
( ممّا يذكر أنّنا قد تطرقنا إلى عجائب خلق الجنين ومراحل خلقه في ذيل الآية ( 6 ) من سورة آل عمران وفي ذيل الآية ( 5 ) من سورة الحج ) .
وفي نهاية الآية ،بعد ذكر الحلقات التوحيدية الثلاث الخاصة بخلق الإنسان والأنعام ومراحل خلق الجنين ،يقول البارئ عز وجل: ( ذلكم الله ربّكم له الملك لا إله إلاّ هو فأنى تصرفون ) .
فأحياناً يصل الإنسان بعد مشاهدته لهذه الآثار التوحيدية العظيمة إلى مقام الشهود .ثمّ أشار تعالى إلى ذاته القدسية ،حيث يقول: ( ذلكم الله ربّكم ) حقّاً لو كانت هناك عين بصيرة فيمكنها أن تراه إنّه وراء هذه الآثار ...فعين الجسم ترى الآثار ،وعين القلب ترى خالق الآثار .
عبارتي «ربّكم » و «له الملك » تدلان في الحقيقة على حصر الربوبية بذاته الطاهرة المقدسة ،والذي اتضح بصورة جيدة في عبارة ( لا إله إلا هو ) فعندما يكون هو الخالق والمالك والمربي والحاكم لكلّ عالم الوجود ،فما هو دور غيره في هذا العالم كي يستحق العبودية ؟!
وهنا تصرخ الآية بوجه مجموعة من النائمين والغافلين قائلة: ( فأنى تصرفون ) أي كيف ضللتم وانحرفتم عن سبيل التوحيد ؟