بعد ذكر هذه النعم الكبيرة التي منّ بها البارئ عز وجل على عباده ،تتطرق الآية التالية إلى مسألة الشكر والكفر ،وتناقش جوانب من هذه المسألة .وفي البداية تقول: ( إن تكفروا فإنّ الله غني عنكم ) أي إن تكفروا أو تشكروا فإنّ نتائجه تعود عليكم ،والله غني عنكم في حال كفركم وشكركم .
ثمّ تضيف ،إنّ غناه وعدم احتياجه لا يمنعان من أن تشكروا وتتجنبوا الكفر ،لأنّ التكليف إنّما هو لطف ونعمة إلهية ،نعم ،قال تعالى: ( ولا يرضى لعباده الكفر و إن تشكروا يرضه لكم ) .
وبعد استعراض هاتين النقطتين تستعرض الآية نقطة ثالثة وهي تحمل شخص مسؤولية أعماله ،لأن قضية التكليف لا يكتمل معناها بدون هذا الأمر ،قال تعالى: ( ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى ) .
ولأنّه لا معنى للتكليف إن لم يكن هناك عقاب وثواب ،فالآية تشير في المرحلة الرّابعة إلى قضية المعاد ،وتقول: ( ثمّ إلى ربّكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون ) .
ولكون مسألة الحساب والعقاب لا يمكن أن تتمّ ما لم يكن هناك إطلاع وعلم كاملين بالأسرار الخفية للإنسان ،تختتم الآية بالقول: ( إنه عليم بذات الصدور ) .
بهذا الشكل ،ومن خلال جمل قصار ،استعرضت فلسفة التكليف وخصوصياته ومسؤولية الإنسان ومسألة العقاب والجزاء والثواب .وهذه الآية جواب قاطع لمن يتولى المذهب الجبري ،الذي انتشرممّا يؤسف لهفي صفوف بعض الطوائف الإسلامية ،لأنّ الآيات الكريمة تقول وبصراحة: ( ولا يرضى لعباده الكفر ) .
وهذا دليل واضح على أن إرادة الكفر لم تفرض على الكافرين ( كما يقول بذلك أتباع المذهب الجبري ) لأنّ من البديهي أنّ من لا يرتضي شيئاً لا يأتي به ،فهل يمكن أنّ تكون إرادة الله منفصلة عن رضاه ؟متعصبو المذهب الجبري يثيرون العجب عندما يعمدون إلى ستر هذه العبارة الواضحة من خلال حصر كلمة ( العباد ) بالمؤمنين أو المعصومين ،في حين أنّها كلمة ذات معنى مطلق وتشمل بصورة واضحة كلّ العباد ،نعم ،فالباري ،عز وجل لا يرتضي الكفر لأحد من عباده ،مثلما يرتضي الشكر لكلّ عباده من دون أي استثناء .
وهذه النقطة تلفت الانتباه ،وهي أنّ أساس تحمّل كلّ إنسان لمسؤولية أعماله يعدّ من الأسس المنطقية والمسلم بها في كلّ الأديان السماوية .
وبالطبع يمكن أحياناً أن يكون الإنسان مشتركاً في ذنوب الآخرين ،وذلك عندما يكون مضطلعاً أو مساهما مع آخرين في تهيئة مقدمات أو أسس ذلك العمل ،كالذين يبتدعون البدع أو السنن الضالة ،في هذه الحالة تكون ذنوب أي شخص يرتكب تلك المحرمات في ذمة مسببها الرئيسي دون أن تقلل ذنوب ذلك الشخص الذي ارتكب الذنب .