{خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} فليس هناك أي عبثٍ في كل تفاصيل وجودهما ،وليس هناك باطل في كل عمقهما التكويني ،بل هو السر الذي يمثل المعنى الكامل في الخلق في ما يتضمنه من حكمة تجعل لكل منهما دوراً في حركة الكون وموقعاً في دائرة نظامه .ومن هنا ،كان الباحثون الذين يرصدون ظواهرهما الكونية ،يختزنون في أنفسهم بأن لكل ظاهرة قانوناً طبيعياً يسيرهما في كل شؤونهما ،ما يجعلهم يبحثون عنه في خصوصيته ،لا في أصل وجوده ،من دون فارق بين الكافر والمؤمن ،لأن ذلك ظاهر في الحركة الكونية التي تتمثل في وجودهما ،من دون حاجةٍ الى استدلال عليه .
{يُكَوِّرُ اللّيلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللّيْلِ} أي يطرح هذا على هذا فيدخله فيه ،فينقص منه ،ويطرح ذاك على ذاك فيترك مثل هذا التأثير فيه ..وهكذا يتحركان باستمرار ،فلا يلغي أحدهما الآخر ،ليقوما بتنظيم الحياة في الآفاق التي يتحركان فيها في تحديد الزمن الذي يخضع له حركة الأشياء .وقد تحدث سيد قطب في تفسيره «في ظلال القرآن » عن هذه الفقرة من الآية ،فاستوحى من كلمة يكوّر التي توحي بمعنى الكرة ،كروية الأرض باعتبار أن الليل والنهار تابعان لها فقال: «إن التعبير ب "يكوّر "يقسرني قسراً على النظر في موضوع كروية الأرض » .
إنها تدور حول نفسها في مواجهة الشمس ،فالجزء الذي يواجه الشمس من سطحها المكوّر يغمره الضوء ويكون نهاراً ،ولكن هذا الجزء لا يثبت ،لأن الأرض تدور وكلما تحرّكت بدأ الليل يغمر سطح الأرض الذي كان عليه النهار ،وهذا السطح مكوّر فالنهار عليه يكون مكوّراً ،والليل يتبعه مكوّراً ،وهكذا في حركةٍ دائبةٍ .
وهذا الاستيحاء طريف ،ولكن لا ظهور للفظ فيه ،لأن الظاهر أن مساقهما هو «مساق »{يُولِجُ اللّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللّيْلِ} [ الحج:61] ذلك ولا تسمح نسبة التكوير إلى الليل والنهار ،بإضافتها إلى الأرض .
{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجلٍ مُّسَمًّى} في ما جعله الله لهما من قانون يحدّد حركتهما المادية والمعنوية ،ودوائرهما التي يسبحان فيها في نطاق الحدود الزمنية التي تنتهي إليها الحركة ،أو ينتهي إليها الوجود ،ليكون وجودهما المتحرك مؤثراً في حركة النظام الكوني في الأرض ،من جهة استمرار الحياة عليها ،ومن جهة بعض المؤثرات الأخرى ،التي لولاها لما كان هناك نظامٌ متوازنٌ يسمح للموجودات الحية أو النامية بالحياة ،{أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفّارُ} الذي يحفظ الكون بقوّته التي تحتوي عزته ويرحم الإنسان الذي قد يخطىء في القيام بمسؤوليته ،فيغفر له .