{وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ( 67 ) ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ( 68 ) وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ( 69 ) ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون ( 70 )} [ 67 – 70] .
في الآيات إشارة تعنيفية إلى الكفار المشركين على عدم إدراكهم حق الإدراك وتقديرهم حق التقدير مدى عظمة الله وقدرته وشأنه واستحقاقه وحده للخضوع والعبادة وتنزهه وتعاليه عن الشركاء .واستطراد إلى ذكر ما يكون يوم القيامة من دلائل عظمته وقدرته وشمول تصرفه ؛حيث تكون الأرض في قبضته والسماوات مطويات بيمينه .وحيث ينفخ في الصور للمرة الأولى فيخر من في السماوات والأرض إلا من شاء الله مصعوقا .ثم ينفخ فيه للمرة الثانية فيقومون جميعا مندهشين ينتظرون مصائرهم .وحيث يتجلى الله حينئذ على الأرض فتمتلئ إشراقا بنوره .وينعقد مجلس القضاء ويؤتى بكتب أعمال الناس وبالنبيين والشهداء ويقضي بين الناس بالحق دونما إجحاف وظلم وتوفى كل نفس ما عملت والله أعلم بما يفعلون .
تعليقات على الآية
{وما قدروا الله حق قدره}
والآيات الثلاث التي بعدها
ولقد روى الترمذي عن ابن عباس قال: ( مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: يا يهودي حدثنا ،فقال: كيف يا أبا القاسم إذا وضع الله السماوات على ذه والأرض على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه ؟وأشار الراوي محمد بن الصلت بخنصره أولا ثم تابع حتى بلغ الإبهام فأنزل الله تعالى:{وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ( 67 )}{[1770]} .ومقتضى الرواية أن تكون الآية مدنية وأن تكون نزلت لحدتها .ولم يرو أحد مدنية الآية ،وارتباطها بما بعدها قوي .وهي بعد معطوفة على ما قبلها .وضمير الفاعل في{وما قدروا الله} هو عائد على المعطوف عليه وهم الكفار موضوع الكلام في الآية السابقة .
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآيات عن عبد الله بن مسعود قال: ( جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله ،فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع والأرض على إصبع والشجر على إصبع والماء على إصبع والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع فيقول: أنا الملك .فضحك النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثم قرأ:{وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة} ولعل التباسا ما وقع في الرواية حيث يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تلا هذه الآية حين ما سأل اليهود فظن الراوي أنها نزلت في مناسبة السؤال .
وكل ما تقدم يسوغ التوقف في الرواية كسبب لنزول الآية في المدينة والقول إن الآيات وحدة تامة ومعطوفة على ما قبلها ومتصلة به .وأنها استهدفت كما قلنا في شرحنا فيما استهدفته التنويه بعظم قدرة الله تعالى ومطلق تصرفه في خلقه ثم توكيد البعث الأخروي ومحاسبة الناس على أعمالهم وجزائهم بما يستحقون عليها .
ولقد روى البغوي في سياق الآية حديثا عن عبد الله بن عمر قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ،ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون ،أين المتكبرون ) .ولقد روى ابن كثير هذا الحديث من إخراج الإمام أحمد بصيغة أخرى فيها مماثلة وفيها زيادات قال: ( قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم على المنبر:{وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} ورسول الله يقول هكذا بيده يحركها .يقبل بها ويدبر ،يمجد الرب نفسه أنا الجبار ،أنا المتكبر ،أنا العزيز ،أنا الكريم ،فيرجف المنبر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى قلنا ليخرن به ) .
والحديث لم يرد بهذا النص أو ذاك في كتب الصحاح ولكن ورد شيء منه فيها حيث روى الشيخان حديثا جاء فيه: ( يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين الملوك ){[1771]} .وفي هذه الأحاديث صورة من تعليقات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هذه الآية للتنويه بعظمة الله بما هو إلهام من عند الله عز وجل .
والنفخ في الصور في الآيات رافقه صعق واستثناء ،ومع أن القرآن استعمل الصعق بمعنى الإغماء كما جاء في آية سورة الأعراف هذه:{فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك} فإن الجمهور على أنها هنا بمعنى الموت الصاعق .وفي جملة:{ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ( 68 )} ما قد يدعم هذا الرأي .
ولقد كرر المفسرون هنا ما قالوه في سياق آيات سورة النمل [ 87 – 90] في جملة{إلا من شاء الله} حيث قالوا إن المستثنين هم الشهداء أو كبار الملائكة .ثم يقضي الله على هؤلاء بالموت فلا يبقى إلا الله عز وجل .ونص الاستثناء صريح بأن هناك فريقا قد يشاء الله تعالى أن يستثنى من الصعق .وهذا ما يجعل ما يقولونه موضوع توقف في نطاق النص القرآني .وليس هناك حديث صحيح في ذلك فنرى الوقوف عندما اقتضته حكمة التنزيل التي قد يلمح أن منها قصد بيان ما يكون عليه وقت البعث والحشر من رهبة وهول .
ولقد اختلفت الأقوال في مدى تعبيري قبضته ويمينه .وقد ألمحنا بهذا الموضوع في تعليق عقدناه في آخر تفسير سورة القصص فنكتفي بهذا التنبيه .
ويلحظ ما بين المشهد الذي احتوته الآية [ 69] وما اعتاده الناس في الدنيا من مجالس القضاء لإحقاق الحق والعدل ؛حيث يتسق هذا مع حكمة التنزيل التي نوهنا بها في تعليقاتنا على الحياة الأخروية بوصف مشاهد هذه الحياة بأوصاف مألوفة للناس على سبيل التقريب والتمثيل مع التنبيه على واجب الإيمان بحقيقة المشهد المذكور في الآية .
وقد يكون في الآيتين [ 69 – 70] تعليم رباني للناس وبخاصة للحكام بوجوب حرصهم على إظهار الحق والعدل بالبينات بقطع النظر عن ما يمكن أن يكون لهم علم بحقيقة وواقع القضايا المعروضة عليهم ،مما عبر عنه بالقاعدة المشهورة ( الحاكم لا يحكم بعلمه ) .