الآية الأخيرة في بحثنا هذا تكشف عن الجذر الرئيسي لانحرافهم ،وتقول: ( وما قدروا الله حق قدره ) .ولهذا تنزلوا باسمه المقدس حتى جعلوه رديفاً للأوثان !!
نعم ،فمصدر الشرك هو عدم معرفة البارئ عز وجل بصورة صحيحة ،فالذي يعلم:
أوّلا: أنّ الله مطلق وغير محدود من جميع النواحي .
وثانياً: أنّه خالق كلّ الموجودات التي تحتاج إليه في كلّ لحظة من لحظات وجودها .
وثالثاً: أنّه يدير الكون ويحل كلّ عقد المشاكل ،وأنّ الأرزاق بيده ،وحتى الشفاعة إنّما تتمّ بإذنه وأمره ،فما معنى توجه من يعلم بكلّ هذه الحقائق إلى غير الله .
وأساساً فإنّ وجود مثل هذه الصفات في موجودين اثنين أمر محال ،لأنّه من غير الممكن عقلا وجود موجودين مطلقين من جميع الجهات .
ثمّ يأتي القرآن بعبارتين كنائيتين بعد العبارة السابقة ،وذلك لبيان عظمة وقدرة البارئ عز وجل ،إذ يقول كلام الله المجيد: ( والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ) .
«القبضة »: الشيء الذي يقبض عليه بجميع الكف ،تستخدمعادةللتعبير عن القدرة المطلقة والتسلط التام ،مثلما نقول في الاصطلاحات اليومية الدارجة: إن المدينة الفلانية هي بيدي ،أو الملك الفلاني هو بيدي وفي قبضتي .
«مطويات »: من مادة ( طي ) وتعني الثني ،والتي تستعمل أحياناً كناية عن الوفاة وانقضاء العمر ،أو عن عبور شيء ما .
والعبارة المذكورة أعلاه استخدمت بصورة واضحة بشأن السماوات في الآية ( 104 ) من سورة الأنبياء ( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب ) .
فالذي يثني طوماراً ويحمله بيده اليمنى يسيطر بصورة كاملة على الطومار الذي يحمله بتلك اليد ،وانتخبت اليد اليمنى هنا لأن أكثر الأشخاص يؤدون أعمالهم المهمّة باليد اليمنى ويحسون بأنّها ذات قوة وقدرة أكثر .
خلاصة الكلام ،أنّ كلّ هذه التشبيهات والتعابير هي كناية عن سلطة الله المطلقة على عالم الوجود في العالم الآخر ،حتى يعلم الجميع أن مفتاح النجاة وحل المشاكل يوم القيامة هو بيد القدرة الإلهية ،كي لا يعمدوا إلى عبادة الأصنام وغيرها من الآلهة بذريعة أنّها ستشفع لهم في ذلك اليوم .
ولكن هل أنّ السماء والأرض ليستا في قبضته في الحياة الدنيا ؟فلم الحديث عن الآخرة ؟
الجواب: إنّ قدرة البارئ عز وجل تظهر وتتجلّى في ذلك اليوم أكثر من أيّ وقت مضى ،وتصل إلى مرحلة التجلّي النهائي ،وكل إنسان يدرك ويشعر أنّ كلّ شيء هو من عند الله وتحت تصرفه .إضافة إلى أنّ البعض اتجه إلى غير الله بذريعة أنّ أُولئك سينقذونه يوم القيامة ،كما فعل المسيحيون ،إذ أنّهم يعبدون عيسى( عليه السلام )متصورين أنّه سينقذهم يوم القيامة ،وطبقاً لهذا فمن المناسب التحدث عن قدرة البارئ عز وجل في يوم القيامة .
ويتّضح بصورة جيدة ممّا تقدم أنّ طابع الكناية يطغى على هذه العبارات ،وبسبب قصور الألفاظ المتداولة فإنّنا نجد أنفسنا مضطرين إلى صبّ تلك المعاني العميقة في قوالب هذه الألفاظ البسيطة ،ولا يرد إمكانية تجسيم البارئ عز وجل من خلالها ،إلاّ إذا كان الشخص الذي يتصور ذلك ذا تفكير ساذج وعقل بسيط جدّاً ،حيث نفتقد ألفاظاً تبيّن مقام عظمة البارئ عز وجل بصورة واضحة ،إذن فيجب الاستفادة بأقصى ما يمكن من الكنايات التي لها مفاهيم كثيرة ومتعددة .
على أية حال ،فبعد التوضيحات التي ذكرت آنفاً ،يعطي البارئ عز وجل في آخر الآية نتيجة مركزة وظاهرية ،إذ يقول: ( سبحانه وتعالى عما يشركون ) .
فلو لم يكن بنو آدم قد أصدروا أحكامهم على ذات الله المقدسة المنزهة وفق مقاييس تفكيرهم الصغيرة والمحدودة ،لما انجر أحد منهم إلى حبائل الشرك وعبادة الأصنام .
/خ67