التّفسير
( النفخ في الصور ) وموت وإحياء جميع العباد:
الآيات الأخيرة في البحث السابق تحدثت عن يوم القيامة ،وآية بحثنا الحالي تواصل الحديث عن ذلك اليوم مع ذكر إحدى الميزات المهمة له ،إذ تبدأ الحديث بنهاية الحياة في الدنيا ،وتقول: ( ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ) .
يتّضح بصورة جيدة من هذه الآية أنّ حادثتين تقعان مع نهاية العالم وعند البعث ،في الحادثة الأولى يموت الأحياء فوراً ،وفي الحادثة الثانيةالتي تقع بعد فترة من وقوع الحادثة الأولىيعود كلّ الناس إلى الحياة مرّة أخرى ،و يقفون بانتظار الحساب .
القرآن المجيد عبّر عن هاتين الحادثتين ب «النفخ في الصور » ،وهذا التعبير كناية عن الحوادث المفاجئة والمتزامنة التي ستقع و «الصور » بمعنى البوق الذي يتخذ من قرن الثور ويكون مجوفاً عادة حيث يستخدم مثل هذا البوق في حركة القوافل أو الجيش وتوقفها ،وطبعاً هناك تفاوت بين النفخة للتحركة والنفخة للتوقف .
كما يبيّن هذا التعبير سهولة الأمر ويوضح كيف أن البارئ عز وجلمن خلال أمر بسيط وهو النفخ في الصوريميت كلّ من في السماء والأرض ،وكيف أنّه يبعثهم من جديد بنفخة صور أخرى .
وقلنا سابقاً إنّ الألفاظ التي نستخدمها في حياتنا اليومية عاجزة عن توضيح الحقائق المتعلقة بعالم ما وراء الطبيعة أو نهاية العالم وبدء عالم آخر بدقّة ،ولهذا السبب يجب الاستفادة من أوسع معاني الألفاظ الدارجة والمتداولة مع الالتفات إلى القرائن الموجودة .
توضيح: لقد وردت تعبيرات مختلفة في القرآن المجيد عن نهاية الحياة في هذا العالم وبدء حياة أخرى في عالم آخر ،حيث ورد الحديث عن ( النفخ في الصور ) في أكثر من عشر آيات{[3852]} .
في إحداها استخدمت عبارة النفر في الناقور ( فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير ){[3853]} .
وفي بعضها استخدمت عبارة ( القارعة ) كما في الآيات ( 1 و2 و3 من سورة القارعة ) ( القارعة ،ما القارعة ،وما أدراك ما القارعة ) .
وأخيراً استخدمت في بعضها عبارة «صيحة » والتي تعني الصوت العظيم ،كما ورد ذلك في الآية ( 49 ) من سورة يس ( ما ينظرون إلاّ صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون ) التي تتحدث عن الصيحة التي تقع في نهاية العالم وتفاجئ كل بني آدم .
أمّا الآية ( 53 ) من سورة يس ( إن كانت إلاّ صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون ) فإنّها تتحدث عن صيحة ( الإحياء ) التي تبعث الناس من جديد وتحضرهم إلى محكمة العدل الإلهية .
من مجموع هذه الآيات يمكن أن يستشف بأن نهاية أهل السموات والأرض تتمّ بعد صيحة عظيمة وهي ( صيحة الموت ) وأنّهم يبعثون من جديد وهم قيام بصيحة عظيمة أيضاً ،وهذه هي ( صيحة بعث الحياة ) .
وأمّا كيف تكون هاتان الصيحتان ؟
وما هي آثار الصيحة الأولى وتأثير الصيحة الثانية ؟فلا علم لأحد بهما إلاّ الله سبحانه وتعالى ،ولذا ورد في بعض الرّوايات التي تصف ( الصور ) الذي ينفخ فيه «إسرافيل » في نهاية العالم ،عن علي بن الحسين( عليه السلام ):«وللصور رأس واحد وطرفان ،وبين طرف رأس كلّ منهما إلى الآخر مثل ما بين السماء إلى الأرض … » قال: فينفخ فيه نفخة فيخرج الصوت من الطرف الذي يلي الأرض فلا يبقى في الأرض ذو روح إلاّ صعق ومات ،ويخرج الصوت من الطرف الذي بلي السماوات فلا يبقى في السماوات ذو روح إلاّ صعق ومات إلاّ إسرافيل ،قال: فيقول الله لإسرافيل: يا إسرافيل ،مت ،فيموت إسرافيل ...»{[3854]} .
على أية حال ،فإنّ أكثر المفسّرين اعتبروا ( النفخ في الصور ) كناية لطيفة عن كيفية نهاية العالم وبدء البعث ،ولكن مجموعة قليلة من المفسّرين قالوا: إن ( صور ) هي جمع ( صورة ) وطبقاً لهذا القول ،فقد اعتبروا النفخ في الصور يعني النفخ في الوجه ،مثل نفخ الروح في بدون الإنسان ،ووفق هذا التّفسير ينفخ مرّة واحدة في وجوه بني آدم فيموتون جميعاً ،وينفخ مرة أخرى فيبعثون جميعاً{[3855]} .
هذا التّفسير إضافة إلى كونه لا يتطابق مع ما جاء في الروايات ،فإنّهلا يتطابق أيضاً مع الآية مورد بحثنا ،لأنّ الضمير في عبارة ( ثم نفخ فيه أخرى )مفرد مذكر يعود على الصور ،في حين لو كان يراد منه المعنى الثّاني لكان يجب استعمال ضمير المفرد المؤنث في العبارة لتصبح ( نفخ فيها ) .
إنّ النفخ في الوجه في مجال إحياء الأموات يعد أمراً مناسباً ( كما في معجزات عيسى ( عليه السلام ) ) إلاّ أنّ هذا التعبير لا يمكن استخدامه في مجال قبض الأرواح .
بحوث
1هل أنّ النفخ في الصور يتمّ مرتين ،أو أكثر ؟
المشهور بين علماء المسلمين أنّه يتمّ مرّتين فقط ،وظاهر الآية يوضّح هذا أيضا ،كما أنّ مراجعة آيات القرآن الأخرى تبيّن أنّ هناك نفختين فقط ،لكن البعض قال: إنّها ثلاث نفخات ،والبعض الآخر قال: إنّها أربع .
وبهذا الشكل فالنفخة الأولى يقال لها نفخة ( الفزع ) ،وهذه العبارة وردت في الآية ( 87 ) من سورة النمل ( ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض ) .
والنفختان الثانية والثّالثة يعتبرونها للإماتة والإحياء ،والتي أشير إليها في آيات بحثنا وفي آيات قرآنية أخرى ،أولاهما يطلقون عليها نفخة ( الصعق ) ( الصعق تعني فقدان الإنسان حالة الشعور ،أي يغشى عليه ،وتعني أيضاً الموت ) والثانية يطلق عليها نفخة ( القيام ) .
أمّا الذين احتملوا أن النفخات أربع ،فيبدو أنّهم استشفوا ذلك من الآية ( 53 ) من سورة يس والتي تقول بعد نفخة الإحياء ( إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون ) وهذه النفخة هي ( لجمعهم وإحضارهم ) .
والحقيقة أنّه ليس هناك أكثر من نفختين ،ومسألة الفزع والرعب العام في الواقع هي مقدمة لموت جميع البشر والذي يتم بعد النفخة الأُولى أو الصيحة الأولى ،كما أن نفخة الجمع هي تتمة لنفخة الإحياء والبعث ،وبهذا الشكل فلا يوجد أكثر من نفختين ( نفخة الموت ) و ( نفخة الإحياء ) ،وهناك شاهد آخر على هذا القول وهو الآيتان ( 6 و 7 ) من سورة النازعات ،اللتان تقولان: ( يوم ترجف الراجفة ،تتبعها الرادفة ) .
2ما هو صور إسرافيل:
هناك سؤال يتبادر إلى الذهن ،وهو: كيف تملأه أمواج الصور الصوتية كلّ العالم في نفس اللحظة ؟رغم أنّنا نعلم أنّ سرعة الأمواج الصوتية بطيئة ولا تتجاوز ال ( 240 ) متراً في الثانية ،في حين أنّ سرعة الضوء هي أكثر بمليون مرة من هذه السرعة إذ تبلغ ( 300 ) ألف كيلومتر في الثانية .
يجب الاعتراف في البداية بأنّ معلوماتنا بشأن هذا الموضوع هي كمعلوماتنا بشأن الكثير من المسائل المتعلقة بيوم القيامة ،فهي معلومات عامة لا أكثر ،إذ نجهل الكثير من تفاصيل ذلك اليوم كما قلنا .
والتدقيق في الروايات الواردة في المصادر الإسلامية بشأن تفسير كلمة ( الصور ) تبيّن عكس ما يتصور البعض من أنّ ( الصور ) هو ( زمارة ) أو ( مزمار ) أو ( بوق ) اعتيادي .
وقد جاء في رواية عن الإمام زين العابدين( عليه السلام ) أنّه قال: «إنّ الصور قرن عظيم له رأس واحد وطرفان ،وبين الطرف الأسفل الذي يلي الأرض إلى الطرف الأعلى الذي يلي السماء مثل تخوم الأرضين إلى فوق السماء السابعة ،فيه أثقاب بعدد أرواح الخلائق »{[3856]} .
وفي حديث ورد عن رسول الله ،جاء فيه: «الصور قرن من نور فيه أثقاب على عدد أرواح العباد »{[3857]} .
طرح مسألة النور هنا بمثابة جواب على السؤال الثّاني المذكور أعلاه ،ويوضح أن الصيحة العظيمة ليست من قبيل الأمواج الصوتية الإعتيادية ،وإنّما هي صيحة أعظم وأعظم ،وتكون أمواجها ذات سرعة فائقة وغير طبيعية حتى أنّها أسرع من الضوء الذي يجتاز السماء والأرض بفترة زمنية قصيرة جدّاً ،ففي المرّة الأولى تكون مميتة ،في المرة الثانية تكون باعثة للأموات .
أمّا كيف يتسبب مثل هذا الصوت في إماتة العالمين ،فإنّ كان هذا الأمر عجيباً في السابق ،فإنه غير عجيب اليوم ،لأننا سمعنا كثيراً بأن الأمواج الإنفجارية تسببت في تمزق أجساد البعض وإصابة آخرين بالصميم ،ورمي آخرين إلى مسافة بعيدة عن مكانهم ،وتسببت في تدمير البيوت أيضاً ،كما شاهد الكثير منّا كيف أنّ زيادة سرعة الطائرة وبعبارة أخرى ( اختراق حاجز الصوت ) يولّد صوتاً مرعباً وأمواجاً مدمّرة ،قد تحطم زجاج نوافذ الكثير من العمارات والبيوت .
فإذا كانت الأمواج الصوتية الصغيرة التي هي من صنع الإنسان تحدث مثل هذا التأثير ،فما هي الآثار التي تتركها الصيحة الإلهية العظيمة ،هي بلا شكّ انفجار عالمي كبير .
ولهذا السبب لا عجب أيضاً إن قلنا بوجود أمواج تقابل تلك الأمواج ،وأنّها تهز الإنسان وتوقظه وتحييه ،رغم أنّه من العسير علينا تصور هذا المعنى ،ولكننا نرى دائماً كيف يوقظ النائم من نومه بواسطة الصوت ،وكيف يعود الإنسان المغمى عليه إلى حالته الطبيعية بواسطة عدّة صعقات شديدة ،ونكرر القول مرّة أخرى ،ونقول: إنّ علمنا المحدود لا يمكنه إدراك سوى ظلّ هذه الأُمور ومن بعيد .
3من هم المستثنون ؟
كما مرّ علينا في الآية المبحوثة عنها فإنّ كلّ أهل السموات والأرض يموتون سوى مجموعة واحدة ( إلا من شاء الله ) فمن هي هذه المجموعة ؟هناك اختلاف بين المفسّرين بشأن هذا الأمر:
فمجموعة من المفسّرين قالوا: إنّهم ملائكة الله الكبار ،كجبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ،وقد أشارت رواية إلى هذا المعنى{[3858]} .
البعض أضاف إلى أولئك الملائكة الكبار حملة عرش الله ( كما وردت في رواية أخرى ){[3859]} .
ومجموعة أخرى قالت: إنّ أرواح الشهداء مستثناة من الموت ،وفقاً لما جاء في آيات القرآن المجيد ( أحياء عند ربهم يرزقون ) كما ورد في رواية تشير إلى هذا المعنى{[3860]} .
وبالطبع فإنّ هذه الروايات لا تتعارض مع بعضها البعض ،ولكن في كلّ الصور فإنّ هذه المجموعة المتبقية تموت في نهاية الأمر ،كما أوضحته تلك الرّوايات ،ولا يبقى أحد حياً في هذا العالم سوى البارئ عز وجل إذ هو ( حيلا يموت ) .
وعن كيفية موت الملائكة وأرواح الشهداء والأنبياء والأولياء ،فيحتمل أنّ المراد من موت أُولئك هو قطع ارتباط الروح عن قالبها المثالي ،أو تعطيل نشاط الروح المستمر .
4فجائية النفختين:
آيات القرآن الكريم توضح بصورة جيدة أنّ النفختين تقعان بصورة مفاجئة ،والنفخة الأولى تكون فجائية بحيث أنّ مجموعة كبيرة من الناس تكون منشغلة بالتجارة والجدال والنقاش في أموالهم وبيعهم وشرائهم ،وفجأة يسمعون الصيحة ،فيسقطون في أماكنهم ميتين ،كما صرحت بذلك الآية ( 29 ) في سورة يس ( إن كانت إلاّ صيحة واحدة فإذا هم خامدون ) .
وأمّا ( الصيحة الثانية ) فإنّ آيات القرآن الكريمومنها الآية التي هي مورد بحثنا تبيّن بأنّها تقع فجأة أيضاً .
5ما هي الفاصلة الزمنية بين النفختين ؟
الآيات القرآنية لم تذكر توضيحاً حول هذا الأمر ،سوى كلمة ( ثم ) التي وردت ضمن آية بحثنا والتي تدل على وجود فاصل زمني بين النفختين ،إلاّ أنّ بعض الرّوايات ذكرت بأن هذه الفاصلة مقدارها ( 40 ) عاماً{[3861]} .والمجهول بالنسبة لنا هو معيار هذه السنين ،فهل هي سنوات اعتيادية كالتي نعيشها نحن ،أم أنّها سنوات وأيّام كسنوات وأيّام القيامة .
على أية حال فالتفكر في نفخة الصور ونهاية العالم ،وكذلك بالنفخة الثانية وبدء عالم جديد ،ومع ملاحظة الإشارات التي وردت في القرآن المجيد ،والتفاصيل الأخرى في الرّوايات الإسلامية بهذا الشأن ،يعطي دروساً تربوية عميقة للإنسان ،وخاصة أنّها توضح هذه الحقيقة ،وهي البقاء على استعداد دائم لاستقبال مثل هذا الحادث العظيم والرهيب في كلّ لحظة ،لأنّه لم يحدد لوقوعها تاريخ معين ،إذ يحتمل وقوعها في أية لحظة ،إضافة إلى أنّها تقع من دون مقدمات ،لذا ورد في ذيل إحدى الرّوايات الخاصة بنفخ الصور والمذكورة آنفاً أنّ الراوي قال ،عندما وصل الكلام إلى هذا الأمر «رأيت علي بن الحسين يبكي عند ذلك «بكاء شديداً » ،إذ كان قلقاً جدّاً من مسألة نهاية العالم ويوم القيامة ،وإحضار الناس للحساب في محكمة العدل الإلهية »{[3862]} .