التّفسير
ذلك اليوم الذي تشرق الأرض بنور ربّها:
آيتا بحثنا تواصلان استعراض الحديث عن القيامة والذي بدأ قبل عدّة آيات ،وهاتان الآيتان تضمان سبع عبارات منسجمة ،كلّ واحدة تتناول أمراً من أُمور المعاد ،لتكمل بعضها البعض ،أو أنّها تقيم دليلا على ذلك .
في البداية تقول: ( وأشرقت الأرض بنور ربّها ) .
وقد اختلف المفسّرون في معنى إشراق الأرض بنور ربها ،إذ ذكروا تفسيرات عديدة ،اخترنا ثلاثاً منها ،وهي:
1قالت مجموعة: إنّ المراد من نور الرب هما الحق والعدالة ،الذي ينير بهما ربّ العالمين الأرض في ذلك اليوم ،حيث قال العلامة المجلسي في بحار الأنوار: «أي أضاءت الأرض بعدل ربها يوم القيامة ،لأن نور الأرض بالعدل »{[3863]} .
والبعض الآخر اعتبر الحديث النبوي ( الظلم ظلمات يوم القيامة ) شاهداً على هذا المعنى{[3864]} .
فيما قال «الزمخشري » في تفسيره الكشاف: ( وأشرقت الأرض بما يقيمه فيها من الحق والعدل ويبسطه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات ) .
2البعض الآخر يعتقد أنّه إشارة إلى نور غير نور الشمس والقمر ،يخلقه الله في ذلك اليوم خاصة .
3أمّا المفسّر الكبير العلاّمة الطباطبائي أعلى الله مقامه الشريف صاحب تفسير الميزان فقد قال: إنّ المراد من إشراق الأرض بنور ربّها هو ما يخصّ يوم القيامة من انكشاف الغطاء وظهور الأشياء بحقائقها وبدو الأعمال من خير أو طاعة أو معصية أو حق أو باطل للناظرين .وقد استدل العلاّمة الطباطبائي على هذا الرأي بالآية ( 22 ) من سورة ( ق ) ( لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ) .وهذا الإشراقوإن كان عاماً لكل شيء يسعه النورلكن لما كان الغرض بيان ما للأرض وأهلها يومئذ من الشأن خصها بالبيان .
وبالطبع فإن هذه التفاسير لا تتعارض فيما بينها ،ويمكن القول بصحتها جميعاً ،مع أن التّفسيرين الأوّل والثّالث أنسب من غيرهما .
ومن دون شك فإنّ هذه الآية تتعلق بيوم القيامة ،وإن وجدنا بعض روايات أهل البيت الأطهار ( عليهم السلام ) تفسّرها على أنّها تعود إلى ظهور القائم المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف ،فهي في الواقع نوع من التطبيق والتشبيه ،وتأكيد لهذا المعنى ،وهو عند ظهور المهدي ( عج ) تصبح الدنيا نموذجاً حياً من مشاهد القيامة ،إذ يملأ هذا الإمام بالحق ونائب الرّسول الأكرم وخليفة الله الأرض بالعدل إلى الحد الذي ترتضيه الحياة الدنيا .
ونقل ( المفضل بن عمر ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) «إذا قام قائمنا أشرقت الأرض بنور ربّها واستغنى العباد عن ضوء الشمس وذهبت الظلمة »{[3865]} .
العبارة الثّانية في هذه الآية تتحدث عن صحائف الأعمال ،إذ تقول: ( ووضع الكتاب ) .
الصحائف التي تتضمن جميع صغائر وكبائر أعمال الإنسان ،وكما يقول القرآن المجيد في الآية ( 49 ) من سورة الكهف ( لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلاّ أحصاها ) .
وتضيف العبارات التي تتحدث عن الشهود ( وجيء بالنّبيين والشهداء ) .
فالأنبياء يحضرون ليسألوا عن أدائهم لمهام الرسالة ،كما ورد في الآية ( 6 ) من سورة الأعراف ( ولنسألن المرسلين ) .
كما يحضر شهداء الأعمال في محكمة العدل الإلهية ليدلوا بشهاداتهم ،صحيح أن البارئ عز وجل مطلع على كلّ الأُمور ،ولكن للتأكيد على مقام العدالة يدعو شهداء الأعمال للحضور في تلك المحكمة .
ذكر المفسّرون آراء عديدة بشأن أولئك الشهداء على الأعمال ،حيث قال البعض: إنّهم الصالحون والطاهرون والعادلون في الأمّة ،الذين يشهدون على أداء الأنبياء لرسالتهم ،وعلى أعمال الناس الذين كانوا يعاصرونهم ،و( الأئمة المعصومون ) هم في طليعة شهداء الأعمال .
في حين يعتقد البعض الآخر بأنّ الملائكة هم الشهداء على أعمال الإنسان ،والآية ( 21 ) في سورة ( ق ) تعطي الدليل على هذا المعنى ( وجاءت كلّ نفس معها سائق وشهيد ) .
وقال البعض: إن أعضاء بدن الإنسان ومكان وزمان الطاعة والمعصية هم الذين يشهدون على الإنسان يوم القيامة .
ويبدو أن كلمة ( شهداء ) لها معان واسعة ،أشار كلّ مفسر إلى جانب منها في تفسيره .
و احتمل البعض أنّها تخص «الشهداء » الذين قتلوا في سبيل الله ،ولكن هذا الاحتمال غير وارد وبعيد ،لأن الحديث هو عن شهداء محكمة العدل الإلهي ،وليس عن شهداء طريق الحق ،مع إمكانية انضمامهم إلى صفوف الشهود .
العبارة الرّابعة تقول: ( وقضي بينهم بالحق ) .
والخامسة تضيف: ( وهم لا يظلمون ) .