{أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب}: .
قانت: خاضع أو خاشع أو طائع .
في الآية تساؤل عما إذا لم يكن الأفضل هو الخاضع لله وحده العابد له ،آناء الليل وأطراف النهار ،والذاكر له وقت الشدة والرخاء معا ،يحسب حساب الآخرة وأهوالها ،ويرجو من ربه أن يشمله برحمته .وأمر رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتساؤل ثانية عما إذا كان يصح أن يسوى بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون أو أن يكون الفريقان في مقام واحد .وتقرير بأن أرباب العقول الراجحة السليمة هم فقط الذين يتذكرون ويدركون حقائق الأمور .
ولقد روى البغوي عن عطاء أن الآية نزلت في أبي بكر ،وعن الضحاك أنها نزلت في أبي بكر وعمر ،وعن ابن عمر أنها نزلت في عثمان ،وعن الكلبي أنها نزلت في ابن مسعود وعمار وسلمان رضي الله عنهم جميعا .وليس ذلك واردا في مساند الصحاح ،وأسلوب الآية عام مطلق وبينه وبين أسلوب الآية السابقة تناظر .فالموضوع في كلتيهما مطلق عام .وفي كلتيهما أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاستنكار وإعلان الحقيقة الواجب إدراكها .وهذا ما يسوغ القول: إن هذه الآية متصلة أولا بالآية السابقة وإن كلتيهما متصلتان بالسياق ،وقد جاءتا على سبيل الاستطراد والتنبيه .ولا نريد بما قلناه أن ننفي خبر استغراق بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأولين في التهجد بالليل بنوع خاص واشتهار ذلك بحيث جعلتهم حكمة التنزيل مناسبة للمفاضلة بينهم وبين أشخاص بطرين مستكبرين من الكفار .
والمتبادر أن التساؤل الأول على سبيل المقايسة بين المؤمن الصالح والكافر المشرك الذي أشارت إليه الآية السابقة والذي لا يذكر الله إلا في وقت الشدة وينحرف عن سبيله وقت الرخاء .وأن التساؤل الثاني تعقيب على الأول وبسبيل التنويه بالفريق الصالح الذي هو وحده يدرك ويعلم ،والتنديد بالفريق المنحرف بسبب عدم فهمه وعلمه .وواضح أن الشطر الثاني من الآية ينطوي على التقرير الإيجابي بأفضلية المؤمن الصالح على المشرك المنحرف الضال بقطع النظر عن المركز الاجتماعي لكل منهما .واستنكار التسوية بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون .وفي هذا – وبخاصة في تقرير أفضلية المؤمن الصالح – تلقين جليل مستمر المدى .
تعليق على جملة:{قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}:
ومع أنه قد يكون المقصود القريب من هذه الجملة المؤمنين والكافرين حيث أدرك الأولون وعلموا حقائق الأمور فاتبعوا طريق الهدى وعميت أبصار الآخرين عن ذلك ،فإن في إطلاق عبارتها مسوغا للقول إنها تتناول كل ما يصح أن يكون موضوع مقايسة بين أمرين أو بين رجلين أو بين جماعتين أحدهما يدعم رأيه أو موقفه بالحجة الواضحة ويستند فيه إلى علم وتفكير .والثاني مهوش مضلل لا يعي الحقيقة ولا يدرك موضع الحق ولا يستند في موقفه إلى علم وبينة .ولهذا فإن التعبير قد أصبح مثلا من الأمثلة القرآنية يتمثل به في كثير من المناسبات لما انطوى فيه من حكمة وصواب وحق .
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا ورد في مسند الإمام عبد بن حميد عن أنس: ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل على رجل وهو في الموت فقال له: كيف تجدك ؟فقال: أرجو وأخاف .فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله عز وجل الذي يرجو وأمنه الذي يخافه ) .وقد ذكر ابن كثير أن الترمذي والنسائي وابن ماجه قد رووا هذا الحديث أيضا وينطوي في الحديث تطبيق نبوي للتلقين القرآني في المناسبات على سبيل الوعظ والتنبيه .