الآية التالية استخدمت أُسلوب المقارنة ،الأُسلوب الذي طالما استخدمه القرآن المجيد لإفهام الآخرين القضايا المختلفة ،حيث تقول: هل أن مثل هذا الشخص انسان لائق وذو قيمه: ( أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائماً يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربّه ) .
أين ذلك الإنسان المشرك والغافل والمتلون والضالّ والمضلّ من هذا الإنسان ذو القلب اليقظ الطاهر الساطع بالنور ،الذي يسجد لله في جوف الليل والناس نيام ،ويدعو ربّه خائفاً راجياً ؟!
فهؤلاء في حال النعمة لا يعدون أنفسهم في مأمن من العقاب والعذاب ،وفي حال البلاء لا ييأسون من رحمته ،وهذان العاملان يرافقان وجودهم أثناء حركتهم المستمرة بحذر واحتياط نحو معشوقهم .
«قانت » من مادة «قنوت » بمعنى ملازمة الطاعة المقرونة بالخشوع والخضوع .
«آناء » هي جمع ( انا )على وزن كذا وتعني ساعة أو مقداراً من الوقت .
التأكيد هنا على ساعات الليل ،لأنّ تلك الساعات يحضر فيها القلب أكثر ،وتقلّ نسبة تلوثه بالرياء أكثر من أيّ وقت آخر .
قدمت الآية السجود على القيام ،وذلك لكون السجود من أعلى درجات العبادة ،وإطلاق الرحمة وعدم تقيّدها بالآخرة دليل على سعة الرحمة الإلهية التي تشمل الحياة الدنيا والآخرة .
وفي حديث ورد في كتاب «علل الشرائع » وفي كتاب «الكافي » نقلا عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) ،إنّه فسّر هذه الآية: ( أمن هو قانت آناء الليل ) بأنّها صلاة الليل .
من الواضح أن هذا التّفسير يشبه الكثير من التفاسير الأخرى التي بيّنت في ذيل آيات مختلفة في القرآن الكريم من قبيل ذكر مصاديقها الواضحة ،ولا ينحصر مفهوم الآية بصلاة الليل .
وتتمة الآية تخاطب الرّسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالقول: ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) .
كلا ،إنّهم غير متساوين: ( إنّما يتذكر أولو الألباب ) .
لا شك في أن السؤال المذكور أعلاه سؤال شامل ،وأنّه يقارن ما بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون ،أي بين العلماء والجهلة ،لأنّه قبل طرح هذا السؤال ،كان هناك سؤال آخر قد طرح ،وهو: هل يستوي المشركون والمؤمنون الذين يحيون الليل بالعبادة ،فالسؤال الثّاني يشير أكثر إلى هذه المسألة وهو: هل أن الذين يعلمون بأن المشركين المعاندين لا يتساوون مع المؤمنين الطاهرين ،يتساوون مع الذين لا يعلمون بهذه الحقيقة الواضحة ؟
وعلى أية حال فهذه العبارة التي تبدأ باستفهام استنكاري ،توضح أحد شعارات الإسلام الأساسية وهو سمو وعلو منزلة العلم والعلماء في مقابل الجهل والجهلة .ولأنّ عدم التساويهذاذكر بصورة مطلقة ،فمن البديهي أن تكون هاتان المجموعتان غير متساويتين عند البارئ ،عز وجل ،وغير متساويين في وجهة نظر العقلاء ،ولا يقفون في صفّ واحد من الدنيا ،ولا في الآخرة وأنّهم مختلفون ظاهراً وباطناً .
ملاحظة
تتضمّن هاتان الآيتان إشارات لطيفة إلى نقاط مهمّة:
1في الآية الأولى ،ذكرت فلسفة الحوادث المرّة والصعبة ،وانكشاف ستائر الغرور والغفلة عن عين القلب ،وصيرورة شعاع الإيمان شعلة وهّاجة ،والعودة والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى ،وأجابت الآية في نفس الوقت أُولئك الذين يتصورون أنّ وجود مثل تلك الحوادث الصعبة في الحياة إنّما هي نقص في مسألة نظام الخلق وفي عدالة البارئ عز وجل .
2الآية الثّانية تبدأ بالدعوة إلى العمل وبناء الذات وتنتهي بالعلم والمعرفة ،لأنّ من لم يبن ذاته ،لا تشع أنوار المعرفة من قلبه ،حيث لا يمكن أصلا فصل العلم عن بناء الذات .
3قوله تعالى: ( قانت آناء الليل ) وردت هنا بصيغة اسم فاعل ،وكلمة ( الليل ) جاءت مطلقة لتشير إلى استمرار عبودية وخضوع أُولئك لله سبحانه ،لأنّ العمل إذا لم يستمر فيكون ضعيف جدّاً .
4إنّ العلم الاضطراري المتولّد من نزول البلاء والذي يربط الإنسان بخالقه ،لا يكون مصداقاً حقيقياً للعلم إلا إذا استمر إلى ما بعد هدوء العاصفة .لذا فإنّ الآيات المذكورة أعلاه تجعل الإنسان الذي يستيقظ حال نزول البلاء ويعود إلى غفلته عند زواله تجعله في عداد الجهلة .إذن فإنّ العلماء الحقيقيين هم المتوجهون إليه تعالى في كلّ الحالات .
5ممّا يلفت الانتباه أنّ نهاية الآية الأخيرة تقول: إنّ الفرق بين الجاهل والعالم لا يدركه سوى أولي الألباب !لأنّ الجاهل لا يدرك قيمة العلم !وفي الحقيقة إنّ كلّ مرحلة من مراحل العلم هي مقدمة لمرحلة أخرى .
6العلم في هذه الآية وبقية الآيات لا يعني معرفة مجموعة من المصطلحات ،أو العلاقة المادية بين الأشياء ،وإنّما يقصد به المعرفة الخاصة التي تدعو الإنسان إلى ( القنوت ) أي إلى طاعة البارئ عز وجل والخوف من محكمته وعدم اليأس من رحمته ،هذه هي حقيقة العلم ،وإن كانت العلوم الدنيوية تؤدي إلى ما ذكرناه آنفا ،فهي علم أيضاً .وإلاّ فهي سبب الغفلة والظلم والغرور والفساد في الارض ،ولا يحصل منها سوى «القيل والقال » وليس «الكيفية والحال » .
7على عكس ما يعتقد به الجهلة الذين يعدّون الدين مخدراً ( أفيوناً ) ،فإنّ أهم ما يدعوا إليه الأنبياء هو طلب العلم والمعرفة ،وقد أعلنوا عداءهم للجهل أينما كان ،وإضافة إلى أنّ القرآن الحكيم استغل الكثير من المناسبات كي يوضح هذا الأمر ،كما وردت في الروايات الإسلامية أحاديث تصور عدم وجود شيء أفضل من العلم .
فقد ورد في حديث عن رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ): «لا خير في العيش إلاّ لرجلين: عالم مطاع ،أو مستمع واع » .
كما ورد حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام ،جاء فيه: «إنّ العلماء ورثة الأنبياء وذاك أنّ الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً ،وإنّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم ،فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظاً وافراً ،فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه فإن فينا أهل البيت في كلّ خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين » .
8الآية الأخيرة تتحدث عن ثلاث مجموعات ،هم العلماء والجهلة وأولو الألباب ،وقد شخصهم الإمام الصادق( عليه السلام ) في حديث له ،عندما قال: «نحن الذين يعلمون ،وعدوّنا الذين لا يعلمون ،وشيعتنا أولوا الألباب » .
9ورد في الحديث خرج أمير المؤمنين( عليه السلام ) ذات ليلة من مسجد الكوفة متوجّهاً إلى داره وقد مضى ربع من اللّيل ومعه كميل بن زياد( رحمه الله ) وكان من خيار شيعته ومحبّيه فوصل في الطّريق إلى باب رجل يتلو القرآن في ذلك الوقت ويقرأ قوله تعالى ( أمَّنَ هُوَ قَانِتٌ أناءَ اللَّيْلِ ...الآية ) بصوت شجي حزين فاستحسن كميل ذلك في باطنه وأعجبه حال الرّجل من غير أن يقول شيئا ،فالتفت صلوات الله عليه إليه وقال: يا كميل لا يعجبك طنطنة الرّجل إنّه من أهل النّار سأنبئك بعد ،فيما يصدر فتحيّر كميل مكاشفة له على ما في باطنه ولشهادته بدخول النّار مع كونه في هذا الأمر وتلك الحالة الحسنة ومضى مدّة متطاولة إلى أن آل حال الخوارج إلى ما آل وقاتلهم أمير المؤمنين( عليه السلام ) وكانوا يحفظون القرآن كما أنزل ،فالتفت أمير المؤمنين( عليه السلام ) إلى كميل وهو واقف بين يديه والسيف في يده يقطر دماً ورؤوس اُولئك الكفرة الفجرة مجلقة على الارض فوضع رأس السيف على رأس من تلك الرؤوس وقال: يا كميل أمّن هو قانتٌ ...الآية أي هو ذلك الشخص الذي كان يقرأ القرآن في تلك الليلة فأعجبك حاله قبّل كيمل قدميه( عليه السلام ) واستغفر اللّه .