{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً} في ما يعنيه القنوت من الالتزام بطاعة الله في روحية الخاشع الخاضع المتمثل في هذا المظهر العبادي الذي يمثل الانسحاق تحت تأثير إرادة الله ،وفي التعبير العميق للسجود بما يمثله من الاستسلام الكلّي أمام أوامر الله ونواهيه ،في ما يحبه أو يسخطه ،{يَحْذَرُ الآخرةَ} فهو في قلقٍ دائمٍ من خطأٍ يقع فيه أو خطيئةٍ يمارسها ،أو انحرافٍ يبتعد فيه عن الاستقامة ،فيحتاط لذلك في النظرة والمعرفة والممارسة حذراً من الوقوع في ما يجلب له الهلاك في الآخرة ،{وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} من جهة ما يؤمّله من رحمة الله التي وصف بها نفسه كعنوانٍ لعلاقته بعباده لجهة سبقها لغضبه ،ولجهة اتّساعها لكل شيء ،ومن جهة ما يأخذ به نفسه من الوقوف عند مواقع رحمته في ما يحبه من طاعته ،ويبتعد به عن معصيته .
هل يستوي هذا العبد المطيع الخاضع الخائف من النار ،الراجي رحمة الله ،مع الكافر الضال المضلّ الذي يتمرد على الله ويستهين بعذابه ؟
وهل يكون الجواب إلا أنهما لا يستويان عند الله ،بل يتميز المؤمن الشاكر على الكافر المتمرد{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} في القيمة الإنسانية التي يمثل العلم في حساباتها ،المستوى الكبير الذي يفتح شخصية الإنسان على الآفاق الرحبة في الحياة بأسرارها العميقة ،وامتداداتها البعيدة ،ورحابها الواسعة ،وقضاياها المعقدة ،وشؤونها المتنوعة ،وحساباتها الدقيقة ،بحيث يملك من خلاله وضوح الرؤية للأشياء ،فيفكر في نور ،ويتحرك في نور ،بينما يمثل الجهل الأفق الضيق ،والظلام الدامس ،والتخلف المتعفّن ،والعقلية المعقّدة ،والنظرة القلقة الحائرة ،وغموض الوعي للأمور ،وبذلك يتحرك الإنسان في الليل المظلم في فكره وشعوره وحركته في خط الحياة .
فلا يستوي الذين يملكون العلم في القيمة الإنسانية والذين لا يملكونه ،بل يتقدم العلماء على الجهلاء عند الناس وعند الله الذي يريد لعباده أن يأخذوا بأسباب العلم ،وينطلقوا في رحابه ،ويتعمقوا في أسراره ،ليحصلوا على الهدى من خلاله ،وليصلوا إلى معرفة الله في وعي الإيمان ،وحركة الالتزام .وقد استوحى الإمام علي هذا المعنى فقال: «قيمة كل امرىء ما يحسنه » ،فأعطى المعرفة دور القيمة ،في مقابل الذين أعطوا القيمة للمال وللجاه ،ولغير ذلك من متاع الدنيا وقيم المادّة .
{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الألبابِ} أي العقول ،في ما يوحي به ذلك من حركة العقل في حياة الإنسان ،في إغناء الذات بالفكر المتأمّل الذي يفتح الوعي على الساحة من حوله ،ليحدّد له الفاصل بين الحق والباطل ،والخير والشرّ ،والحسن والقبح ،والهدى والضلال ،لتنطلق إرادته في رشد الاختيار ،ليتذكر ربّه ،فيعبده حق عبادته ،ومسؤوليته ،فيقوم بها كما يجب ،ومصيره ،فيخطط له على خير ما يرام ...وهكذا يبتعد بالعقل عن الغفلة ،وينأى عن النسيان والسقوط .
وهكذا نجد أن هذه الآية جمعت في فقراتها العناصر الثلاثة في تكامل الشخصية الإنسانية الإسلامية:
1العقل الذي يبدع للإنسان خط التوازن في المعرفة .
2العلم الذي يفتح له آفاق الحياةمن خلال حركة الفكرفي موارده ومصادره ومفرداته ،ليعيبواسطتهكيف يسلك الخطّ المستقيم في حياته .
3الالتزام الدقيق بأوامر الله ونواهيه في عباداته ومعاملاته وعلاقاته العامة والخاصة ،وهذا ما يؤمّنه الخوف من الآخرة ،والرجاء برحمة الله .
وهذه الأمور يريد الله للإنسان أن يحركها في حياته ،كي يحصل على النتائج الكبيرة في قضية المصير .