{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ( 29 ) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا ( 30 ) إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا ( 31 ) وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ به بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( 32 )} .
عبارات الآيات واضحة: والخطاب فيها موجه للمسلمين وقد تضمن:
( 1 ) نهيا عن أكل بعضهم أموال بعض بالباطل مستثنيا ما يدخل على بعضهم من بعض من الربح عن طريق التجارة والتراضي .
( 2 ) ونهيا عن قتل أنفسهم
( 3 ) وتعقيبا على ما نهوا عنه يتضمن تقرير كون الله بهم رحيما ييسر لهم الرزق الحلال ويشملهم بالرحمة والعناية ،فلا يجوز أن يتحايل بعضهم على بعض ويظلم بعضهم بعضا ويعتدي بعضهم على بعض .
( 4 ) وإنذارا لمن يفعل ذلك منهم بالنار مما هو يسير على الله عز وجل .
( 5 ) وتنبيها على وجوب اجتناب الكبائر التي ينهاهم الله عنها .ووعدا بتسامح الله مع من يجتنبها فيما يمكن أن يصدر منه من هفوات ثانوية ؛حيث يغفرها له وييسر له الدخول في المدخل الكريم .
( 6 ) ونهيا عن التنافس والتحاسد وتشهي ما فضل الله به بعضهم على بعض في القسمة والأنصبة والربح والرزق .مع تقرير حق الرجال فيما أحرزوا وكسبوا وحق النساء فيما أحرزن وكسبن ،وتقرير كون الله عز وجل هو المتفضل عليهم جميعا ،وأن عليهم أن يسألوه من فضله فهو العليم بمقتضيات كل شيء .
تعليق على الآية
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ..)الخ
والآيات الثلاث التالية لها
ولم نطلع على مناسبة خاصة في نزول الآيات الثلاث الأولى .وقد روى المفسرون{[533]}
أن الآية الرابعة نزلت في مناسبة قول أم سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يغزو الرجال ولا يغزو النساء وجعل نصيب النساء نصف نصيب الرجال .وقد روى هذا الترمذي أيضا ،وهذا لفظه عن أم سلمة قالت: يغزو الرجال ولا يغزو النساء ،وإنما لنا نصف الميراث فنزلت الآية .وشيء من هذا روي عن أم سلمة في سياق آيات سورة آل عمران ( 195 ) وسورة الأحزاب ( 35 ) على ما ذكرناه سابقا .والذي يتبادر لنا أن هذه الآية غير منفصلة عن الآيات الثلاث ،وأن النهي فيها متصل بالنهي عن أكل بعض الناس أموال بعضهم بالباطل ،وهذا ما جعلنا نعرض الآيات الأربع معا .ويجعلنا نميل إلى القول: إن في رواية نزولها في مناسبة ما قالته أم سلمة التباسا .بل ويتبادر لنا من روحها وانسجامها مع الآيات الثلاث أن فيها نهيا عن أكل أموال النساء ،من حيث كون الرجال اعتادوا أن يتحايلوا على أموال النساء بشتى الطرق ،فاحتوت الآية بمناسبة النهي الوارد في الآية الأولى تثبيتا لحقوقهن ونهيا عن العدوان والتحايل عليها بأسلوب آخر جعلها تدخل في عموم النهي وفي مشمول الكبائر .
وإذا صح هذا التوجيه كما نرجو ،فتكون الآية الرابعة قد انطوت على تنبيه حاسم على حق المرأة فيما يدخل إلى يدها من مال مشروع من مختلف الطرق وحرية تصرفها فيه وأهليتها الاستقلالية لهذا التصرف ثم على حقها في النشاط والاكتساب وأهليتها لهما .بل إن هذا منطو في الآية على كل حال على ما تلهمه روحها ومضمونها بالإضافة إلى الآيات العديدة الأخرى التي مرت في هذه السورة وفي سورة البقرة وشرحناها شرحا يغني عن التكرار .
والآيات الأربع كما قلنا وحدة تامة .وفيما احتوته من أوامر ونواه وإنذار وتبشير ووعيد تلقينات جليلة مستمرة المدى في صدد المواضيع المتنوعة التي تضمنتها على ما شرحناه في تأويلها شرحا يغني عن التكرار .وقد تكرر مثل ذلك بمختلف الأساليب في فصول عديدة مكية ومدنية معا ؛لأن ما احتوته متصل بمختلف أعمال الناس وصلاتهم ببعضهم وحياتهم ومصالحهم ،فاقتضت حكمة التنزيل أن تتوالى الفصول فيه .
ومع ما شرحناه لمدى الآية الأخيرة ،وقولنا باتصال مداها بمسائل أنصبة الإرث التي عينها الله تعالى في آيات المواريث للرجال والنساء ،فإن فيها تلقينا عاما يجدر التنويه به .وهو عدم طمع الناس فيما عند غيرهم مما هو من كسبهم وجهدهم وحقهم الشرعي .مع التنبيه على أن هذا لا يعني عدم التمني بأن يكون لهم مثل ذلك أو عدم الجهد في الحصول عليه من طرقه الشرعية السائغة ،بل إن الفقرة الأخيرة من الآية تتضمن حثا على ذلك .
وجملة ( ألا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) في الآية الأولى تأتي للمرة الثانية .وقد جاءت قبل في آية سورة البقرة ( 188 ) وشرحنا مداها بما يغني عن التكرار ،إلا أن نقول: إن تكرارها يفيد أن حكمة التنزيل قد توخت التوكيد على وجوب قيام التعامل بين المسلمين ،وبخاصة في الشؤون المالية على الحق والإنصاف واجتناب كل جنف وحيلة ووسيلة باطلة .وفي هذا ما فيه من تلقين جليل .
ولقد وقف المفسرون{[534]} عند جملة ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) وهذا لم يرد في آية سورة البقرة .وقد رووا عن أهل التأويل أن التراضي الذي يجب أخذ المسلمين أموال بعضهم به في التجارة هو منح الخيار للبائع والشاري في النقض والإمضاء بعد عقد الصفقة ،حتى لا يبقى في نفس أي من البائع والشاري أي شيء .وروى الطبري في صدد ذلك حديثا عن مهران ابن ميمون جاء فيه ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم البيع عن تراض والخيار بعد الصفقة ولا يحل لمسلم أن يغش مسلما ) وحديثا آخر عن أبي قلابة قال ( قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يفترق بيعان إلا عن رضا ) وحديثا آخر عن ابن عباس جاء فيه ( إن النبي صلى الله عليه وسلم بايع ،ثم قال له: اختر .فقال: اخترت .فقال: هكذا البيع ) .
وهذه الأحاديث لم ترد في الصحاح .وهذا لا يمنع صحتها ،وإن لم تكن نصا فروحا وهناك أحاديث وردت في الصحاح من بابها .منها حديث رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر جاء فيه ( إن رجلا ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع فقال: إذا بايعت فقل لا خلابة ،وفي رواية: لا خيابة ){[535]} وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يفترق اثنان إلا عن تراض ){[536]} .وحديث رواه الخمسة عن حكيم ابن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ،فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا محقت بركة بيعهما ){[537]} وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما تقدم{[538]} وينطوي في الأحاديث تساوق مع التلقين القرآني وتعليم وتوضيح نبويان يجب الوقوف عندهما .
وهناك من قال: إن الخيار الممنوح في الأحاديث يجب أن يكون في مجلس البيع ،وهناك من لم ير ذلك ضروريا .وأصحاب هذا المذهب أولوا جملة ( ما لم يتفرقا ) في الحديث بأنها ما لم يتفرقا في القول{[539]} وقد صوب الطبري القول الأول ،إلا إذا تراضى المتبايعان على الخيار بعد الافتراق .ولعل هذا هو الأسد الأوجه .
ولقد حمل بعض المفسرين جملة ( ولا تقتلوا أنفسكم ) على ظاهرها .ومنهم من حملها على النهي عن تعريض النفس للقتل بقتل الغير أو بأكل مال الغير بالباطل أو الهلاك بالموبقات{[540]} ويتبادر لنا أن النهي متصل بموضوع الآيات ولا سيما أنه جزء من الآية الأولى التي تنهى الناس عن أكل أموال بعضهم بالباطل .
فإما أن تكون الآية رمت إلى مفهوم معنوي ،وهو ما يكون في أكل الناس أموال بعضهم بالباطل الذي يكون قتل النفس في معنى من معانيه وفي تعريضها بعقوبة الله .وإما أن تكون رمت إلى النهي عن العدوان على النفس بسبيل الإرث ومشاكله ،ولا سيما أن مشاكل الإرث كثيرا ما تبعت على البغي والجريمة .ولعل التشريع الإرثي الجديد قد أحدث بعض الأحقاد وساق بعض الناس إلى البغي والعدوان .ولعل الآية الرابعة رمت فيما رمت إليه إلى تهدئة النفوس في صدد ذلك وتوطينها على الامتثال لما شرع الله .
وهذا الذي نقوله لا يقلل وجاهة حمل الجملة على ظاهرها ،من حيث كون قتل الإنسان نفسه مما يقدم عليه بعض الناس في كل ظرف ومكان بسبب ما يلم بهم من أزمات نفسية ومادية وجملة ( إن الله كان بكم رحيما ) التي جاءت بعد الجملة تنطوي في هذا المقام على تهدئة ومعالجة حيث تهتف بالمسلمين: إن الله يظل شاملا إياهم برحمته فيجب أن لا ييأسوا ويقدموا على قتل أنفسهم .
ولقد أورد المفسرون في سياق ذلك بعض الأحاديث النبوية .منها حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا ) ومن تحسى سما فقتل نفسه ،فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا فيها .ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها ){[541]} وحديث رواه البخاري عن جندب ابن عبد الله البجلي قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجل ممن كان قبلكم ،وكان به جرح فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات فقال الله عز وجل: عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة ){[542]} ؛حيث يفيد هذا أن قاتل نفسه مخلد في النار وحيث ينطوي فيه على كل حال تنبيه على أن قتل الإنسان نفسه ليس أمرا شخصيا له الحرية فيه ،وإنما هو جريمة كبرى يعاقب الله عليها .ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي حديثا عن جابر ابن سمرة قال ( أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه ){[543]}
ومما لا ريب فيه أن هذه الجريمة داخلة في جملة الكبائر المنهي عنها التي نبهت الآية الثالثة من الآيات على وجوب تجنبها ووعدت من يتجنبها بالمدخل الكريم .
وبعض المفسرين أولوا المدخل الكريم بالجنة .ومع وجاهة هذا التأويل فإن إطلاق الجملة القرآنية يسوغ القول باحتمال أن يكون ذلك في الحياة أيضا .ولقد وعد المتقون بالحياة الحسنة في الدنيا بالإضافة إلى ما هو أحسن في الآخرة كما جاء في آية سورة النحل هذه ( وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين30 ){[544]} .
ولا شك في أن اجتناب الكبائر يضمن للمسلم حياة كريمة مطمئنة في الدنيا بالإضافة إلى ما يضمنه من نعيم ورضوان في الآخرة .
ومع أن المتبادر أن جملة ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ) راجعة إلى ما ذكرته الآية الأولى من الآيات ؛لأنها متصلة بها مباشرة فإن الطبري روى عن عبد الله ابن مسعود وغيره أن ذلك يشمل كل ما ورد من المنهيات في جميع الآيات من أول السورة .ومع ذلك فإن جمهور المفسرين أخذوها على إطلاقها أيضا واعتبروها شاملة على الحث على اجتناب ما نهى الله ورسوله عنه من كبائر .
وليس في هذا بعد عن مفهوم الجملة ظاهر فيما نرى .
ولقد أورد المفسرون أحاديث نبوية عديدة فيها بيان كبائر الذنوب وموبقاتها .
ولقد أوردنا طائفة من هذه الأحاديث في سياق تفسير الآية ( 31 ) من سورة النجم فنكتفي بهذا التنبيه .مع تكرار القول: إن ما جاء في الأحاديث ليس على سبيل الحصر ،وإن في القرآن كبائر لم تذكر بأعيانها بهذا الوصف في الأحاديث مثل الكذب والميسر والظلم والنفاق والفساد في الأرض الخ .
ولقد أولنا كلمة ( سيئاتكم ) في الجملة التي جاءت بعد الجملة السابق ذكرها بالذنوب الثانوية استلهاما من روح الجملة ونصها .وعلى هذا فيكون في جملة ( نكفر عنكم سيئاتكم ) بعد جملة ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ) بشرى للمؤمنين وتخفيف عنهم ينطوي فيهما معالجة وحكمة ربانية جليلة .فالله سبحانه وتعالى يعلم ضعف الإنسان ،وعدم استطاعته التفلت من نزعات النفس وأهوائها بالمرة ،ويعلم أن هناك ما قد يدق عن فهم مداه بصورة عامة من هفوات قد تبدر منه عن حسن نية أو غفلة أو بغير تعمد للأذى والإثم والمخالفة ،أو ما يكون ضرره وأذاه محدودا فآذان المسلمين في هذه الجملة أن المهم هو اقتراف الموبقات والكبائر والفواحش ،فإذا ما اجتنبوها ودللوا على التزامهم حدود الله ،وقاموا بما عليهم من واجبات نحوه ونحو خلقه أسبغ عفوه وغفرانه على ما يلمون به من الأخطاء والهفوات الثانوية .وقد تضمنت هذا المعنى آيات سورة النجم هذه ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى31 الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة 32 ) على ما شرحناه في سياق تفسيرها .