ما جمع بالباطل باطل
إن القرآن يتحدث عن المجتمع كوحدةٍ عضوية ذات أجزاء ،في ما يملكه من أموال ،وما يشتمل عليه من أفراد .فإذا تحدّث عن الأموال وكيفية التصرف بها والتحذير من العدوان عليها ،فإنه يتحدث في خطابه للمؤمنين عنها بصفتها «أموالكم » ؛وإذا تحدّث عن الأفراد الذين يتألف منهم المجتمع ،محذراً من الاعتداء عليهم بالقتل والظلم ،فإنه يتحدث عنهم بصفتهم «أنفسكم » ،وذلك للإيحاء بأن المؤمنين وحدة متكاملة في ما يملكون من طاقات ،وما يمثلون من تجمّعات .وقد تحدّثت الايتان هنا حول موضوعين:
أحدهما: طريقة التملك للأموال الموجودة في أيدي الناس .
ثانيهما: الاعتداء على الأنفس .
وقد جاءت الآية الكريمة:{يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} ،وحذّرت من أكل أموال الناس بالباطل ؛وهي كناية عن الاستيلاء عليها بالتملُّك .والمقصود بكلمة «الباطل » كل الوسائل التي لا ترتكز على أساس شرعي ،مما يدخل في التخطيط الذي وضعه الله لعباده في معاملاتهم وعلاقاتهم .فقد أراد الله للناس السير في حياتهم على الأسس الثابتة التي تنسجم مع العقل والحكمة والفكر السليم ،واعتبر كل شيء يخالف ذلك باطلاً .وبذلك كان الباطل شاملاً للقمار ،والربا ،والسرقة ،والرشوة في الحكم ،وبيع المحرمات المضرة بأبدان الناس وعقولهم وحياتهم ،ونحو ذلك مما جاء به التحريم في الشريعة المطهرة .ولا تتوقف آثار صفة الباطل على جانب المسؤولية الآخروية من عقاب الآخرة ،بل تمتد إلى عدم ترتب أي أثر شرعي قانوني عليه ،فلا يملك الإنسان المال ،إذا نقل إليه بالوسائل المحرمة التي لم يشرّعها الله .وهذه قاعدة عامة في طريقة انتقال المال من شخص إلى آخر ،أو تملكه من خلال حيازة أو نحوها ،فلا بد من طريقة شرعية ثابتة في الكتاب والسنة .وقد جاء في بعض الأحاديث المأثورة: «لا يحل مال إلا من وجه أحلّه الله ...» .وقد تحدثت الآية عن نموذج من نماذج الوسائل المحلّلة وهي التجارة عن تراض ،فللإنسان أن يتملك ما يشاء بما يساوي ماله أو يزيد عليه ،على أساس العمليات التجارية مع الآخرين الصادرة عن اتفاق تراض بين الطرفين .
الحياة لله تعالى لم يسلّط أحداً عليها إلا بالحق
أما الموضوع الثاني ،وهو الاعتداء على النفوس ،فقد حذرت الآية المؤمنين من أن يقتلوا نفوسهم ،وذلك في قوله تعالى:{وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} ،لأن الحياة هي ملك الله وهبها لمخلوقاته ،ولم يسلّط عليها أحداً إلا بالحق ،فلا يجوز لإنسان أن يقتل أحداً إلا بالحق ،ولا يجوز له أن يقتل نفسه بطريقة الانتحار .
وقد تحدث الفقهاء كثيراً عن الاحتياط في النفوس والأموال والأعراض ،مما يوحي بأن الأصل في هذه الأمور التوقف حتى تثبت الإباحة .وربما ناقش بعضهم في بعض جزئيات ذلك كالأموال ،ولكن لم يناقش أحد في هذه القاعدة في ما يتصل بالدماء .
الرحمة نظام شامل للحياة
وقد عقب الله على هذين التحذيرين بكلمة{إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} ،مما يوحي لنا بالفكرة التي تجعل الرحمة نظاماً عملياً شاملاً لحياة الإنسان في كل ما يصلحها ويبتعد بها عن الفساد ،لا مجرد عاطفة إشفاق .وهكذا تمثلت الرحمة في التقنين للحياة ،في ظل نظام قائم على أساس احترام الأموال والنفوس ،فلا يخاف الإنسان في المجتمع المؤمن أن يؤخذ ماله ،أو يعتدى على حياته بغير حق ،بل يعيش الأمن والطمأنينة في ذلك كله .ومن خلال ذلك ،يمكن لنا استيحاء الفكرة العملية ،من خلال ما تتمثله من عواطف ومشاعر ،لنتوقف عند الجانب العملي الذي يركّز الشعور بالموقفلا بالإحساس المجرّدحتى نتعلّم أن تكون الجوانب العمليّة هي ما تستهدفه الأفكار والمشاعر والعواطف ؛فنستطيعمن خلال ذلكالوصول إلى خطوات متقدمة في الحياة في جميع الميادين .