وماذا بعد ذلك ؟إن القرآن يتابع الخط الإلهي الذي ينطلق فيه التشريع ،فقد خلق الله الإنسان ضعيفاً في بدنه ،ضعيفاً في طاقاته ،وذلك لما أودعه الله فيه من الغرائز التي قد تثير فيه نقاط ضعف كثيرة ؛ولم يرد الله له أن يستسلم لها في عملية سقوط وانهيار ،بل أراد له أن يرتفع إلى مستوى القوة ،ولكن من خلال الوسائل الواقعية التي تثير فيه الإحساس بالقوة بطريقة تدريجية ،من الأعمال والتكاليف والأجواء التي لا تثقل عليه ولا توقعه في الحرج ،ولا تبلغ به حد العسر ،ولا تحمّله ما لا طاقة له به ،بل تخفّف عنه وتربطه باليسير من التكاليف ،والخفيف من الأعمال ،ليشعر بأن المسؤولية ليست شيئاً ثقيلاً ينوء تحته ،بل هي شيء يتناسب مع طاقاته وينسجم مع الطبيعة الإنسانية لنقاط ضعفه .وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة ؛{يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَنُ ضَعِيفاً} .ومن خلال هذا الاستيحاء للاية ،نستطيع أن نواجه الفكرة الخاطئة التي يحاول البعض أن يفهمها من هذه الآية ،وهي أن القرآن الكريم يعمل على أن يعمّق إحساس الإنسان بالضعف ،ليشعر بالانسحاق في إنسانيته تحت وطأة الشعور بضعفه ،مما يعطل فيه إرادة القوة ،ويشلّ فيه طموحه الكبير في التطلع نحو الأفق الواسع الذي يتسع لمواهبه الإنسانية الكبيرة التي تخاطب الحياة كلها .
إن خطأ الفكرة يكمن في أن صاحبها لم يدرس أجواء الآية ،التي انطلقت لتوحي بأن التشريع راعى في عملية التخطيط للإنسان ،في ما يريده له من هدى وقوة ،هذا الجانب الذي تتوزعه نقاط الضعف ؛ولهذا فقد خفف عنه ليستطيع الوصول الى طموحاته في القوة والانطلاق بطريقة واقعية تتناسب مع طاقاته وإمكاناته .
وقد تحدّث القرآن عن القوة في أكثر من آية ،في أجواء السلم والحرب ،وفي حركة الفرد والمجتمع ،ووجَّه الإنسان إلى الأخذ بأسباب القوة التي أودعها الله في نفسه وفي الحياة ؛وأعطاه الثقة بنفسه في الإمكانات المودعة فيه ،ودفعه إلى جهاد النفس الذي يتغلب الإنسان معه على كل نقاط الضعف في الداخل ،وإلى مواجهة التحديات الخارجية التي تعترضه ،وأوحي إليه بأن الله جعله خليفته في الأرض لقدرته على القيام بذلك من خلال عقله وإرادته ،وسخّر له السموات والأرض وما فيهما من قوىً وظواهر وآفاق ،مما يجعل من قضية القوة في حياته قضية أساسية ،تدخل في دوره الفاعل في كل مجالات الحياة .