{ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا ان تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما29 ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا30 إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما31 ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن وسئلوا من فضله إن الله كان بكل شيء عليما32}
في الآيات السابقة بين سبحانه وتعالى الأسس التي يقوم عليها بناء الأسرة ، وكيف يختار كل واحد من الزوجين صاحبه ، وبين الآفات التي قد تعترى الأسرة في ابتداء تكونها ، وبين ان دعائم الأسرة التي يقيمها عليها هي من فطرة ، وهي سنن الذين كانوا قبل الإسلام . وبعد هذا انتقل إل العلاقات الاجتماعية العامة ، وذلك تدرج من الخاص إلى العام ، فالعلاقات في الأسرة خاصة والعلاقات بالمعاملات العامة ، وذلك تدرج من الخاص إلى العام ، فالعلاقات في الأسرة خاصة والعلاقات بالمعاملات المالية علاقة عامة ، ولذا قال:
{ يا أيها الذين آمنوا ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} أكل المال معناه أخذه ، وأطلق الأكل وأريد به الأخذ للإشارة إلى الأصل في وظيفة المال الإنسانية وهو ان يكون وسيلة لمتع الحياة التي اخصها الكل ، وإذا تحول المال من كونه وسيلة لنيل المطاعم إلى ان يقصد لذاته ليكون كمتعة مطلوبة كالكل ، فعندئذ يكون الشح والحرص والتنازع على طلبه بحل او بغير حل ، وهذا شان من يأخذون الباطل يستمتعون به كما يستمتع الآكل بالطعام . وعبر بأموالكم للإشارة إلى ان مال آحاد الأمة مال الأمة موزعا بين آحادها بتوزيع الله تعالى الذي قسم الأرزاق ، وان المال كله في حماية المجتمع ، ولو كان مملوكا ملكا خاصا . وذكر كلمة{ بينكم}للإشارة إلى ان التبادل بين الآحاد يكون على أساس من الحق ، ولا يكون بالباطل ، والباطل هو الطرق المحرمة لجمع المال كالربا والرشوة والسرقة والغصب والنصب والتزوير والغش والتدليس والاحتكار الآثم ، وغير هذا من الأساليب التي لا تبيحها شريعة ولا يبيحها قانون .
{ إلا ان تكون تجارة عن تراض منكم} الاستثناء هنا منقطع ، والمعنى لكن يباح لكم اخذ المال بالتجارة الناشئة عن تراض ، فلا يحل مال امرئ إلا عن طيب نفس أخيه{[707]} ، كما ورد في بعض الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقد يسأل سائل:لماذا جاء هذا بعد النهي عن أكل مال الناس بالباطل ؟ والجواب عن ذلك أن بعض ما يستباح مما حرمه الله يشبه بالتجارة ، فالذين يأكلون الربا يشبهون الزيادة بالكسب الذي يجئ من البيع والشراء ، ولذلك حكى الله سبحانه عن المشركين انهم قالوا:{. . .إنما البيع مثل الربا . . .275}[ البقرة] ورد اله قولهم:{. . .واحل الله البيع وحرم الربا . . .275}[ البقرة] وبهذا بين الله سبحانه وتعالى حل التجارة حتى لا يتوهم احد ان مكاسب التجارة من أكل أموال الناس بالباطل ، فإنها مال حلال ما دام أساسها التراضي وطيب النفس .
والتراضي أساس العقود عامة وأساس المبادلات المالية خاصة ، فلا بيع من غير تراض ولا شراء ولا إجارة ولا شركة ولا غيرها من عقود التجارة ما لم يتحقق الرضا . وقد وسع الفقهاء الباب للرضا ، فأباحوا للعاقد ان يفسخ العقد إذا خفيت العيوب ولم تظهر ؛ لأن الرضا لم يكن على أساس سليم ، وأباحوا للعاقد أن يشترط لنفسه حق الفسخ ، ومن الفقهاء من أباح له الفسخ طول مدة مجلس العقد ، ولو أعلن الرضا ، ولذلك كله للاحتياط ، ولكن يكون الرضا على أساس من العلم الصحيح والجزم القاطع ، والبت القائم على بينة ومعرفة .
وهل التراضي أساس حر للتعاقد من غير قيد يقيده إلا التحريم ؛ بمعنى ان كل ما يشترط ويتعاقد عليه المتعاقدون يكون حلالا ملزما للعاقدين ولو لم يرد به نص خاص ؟ . للفقهاء في ذلك منهاجان مختلفان أحدهما:ان التراضي أساس للإلزام والالتزام ولو لم يرد نص لكل عقد وشرط مادام لا نص يمنع ، فكل ما يشترطه العاقدان ويتراضيان عليه يكون لازما لا يصح نقضه ، إذا لم يكن نص يحرمه ، ولقد قال في ذلك عمر – رضي الله عنه -:مقاطع الحقوق عند الشروط . وأكثر الحنابلة وبعض المالكية على ذلك المنهاج . والمنهاج الثاني:انه لا يلزم من الشروط والعقود إلا ما جاء الدليل على وجوب احترامه ، وهذا منهاج الشافعية والحنفية فعندهم لا يلزم الشرط إلا إذا قام الدليل على وجوب الوفاء به .
والتجارة باب من أبوا الكسب الطيب وفيها فائدة للناس ، وهي تنقل ما فيه الحاجة الإنسانية من مكان إلى مكان ، وبهذا النقل تتغير قيمة الأشياء بالتحويل الصناعي ، فإن الحديد مثلا إذا تحول إلى آلة زادت قيمته بما زادت الصناعة فيه ، فكذلك بنقل البضائع من مكان إلى مكان تزيد القيمة بهذا النقل .
وإن علماء المسلمين كانوا يرحبون بالتجارة التي تنقل البضائع من بلد إلى بلد ومن إقليم إلى إقليم ، ولا يرحبون بالتجارة في البلد الواحد ؛ لأن هذا ليس فيه طلب للأرزاق ، ولأنه قد يؤدي إلى الاحتكار ، وقد جاء في القرطبي:"والبياعات التي تحصل بها الأغراض نوعان:تقلب في الحضر من غير نقلة ولا سفر ، وهذا تربص واحتكار ، قد رغب عنه أولوا الأقدار ، وزهد فيه ذوو الأخطار .
والثاني:تقلب المال بالأسفار ، ونقله إلى الأمصار ، وهذا أليق بأهل المروءة واعم جدوى ومنفعة"{[708]} .
وإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حث على الاتجار بالنقل من بلد إلى بلد ، ومنع الاحتكار وما يؤدي إليه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"المحتكر خاطئ والجالب مرزوق"{[709]} .
{ ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} جاء هذا بعد النهي عن أكل أموال الناس بالباطل ؛ لأن المال عند الناس بمنزلة النفس او قريب منها ، وقد اختلف العلماء في معنى قوله تعالى:{ ولا تقتلوا أنفسكم} فقال بعضهم:معناه لا يقتل أحدكم نفسه ، فإن ذلك إثم ، ومن قتل نفسه فقد اعتدى على نفس حرم الله قتلها ، وهذا تأويل متفق مع السياق ، وإن كان ظاهر اللفظ ربما يفيده ، وقال بعضهم:عن المعنى ولا يقتل بعضكم بعضا ؛ فإن قتل واحد منكم للآخر قتل لأنفسكم ، وتحريض على الدماء بينكم ، وقتل نفس كقتل الناس جميعا ، ومن ذلك قوله تعالى:{ من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا32}[ المائدة] وإن السياق على هذا يكون فيه ترق في النهي عن الاعتداء ، ابتدأ بمنع الاعتداء على المال ، ثم بمنع الاعتداء على النفس ، فهو انتقال من الكبيرة إلى اكبر منها . وقال بعضهم إن المعنى لا تقتلوا أنفسكم بأكل بعضكم أموال بعض ، وبارتكاب المعاصي ، فغن ذلك مفرق لجماعتكم مفسد لأمركم مذهب لوحدتكم ، وبذلك تقتل الأمم والجماعات ، وقد ارتضى هذا ابن بشير فقال:{ ولا تقتلوا أنفسكم} أي بارتكاب محارم الله تعالى ومعاصيه ، واكل أموالكم بينكم . وإن هذا هو الذي نرتضيه ، وهو يتضمن في ثناياه النهي عن القتل بكل ضروبه لأنه داخل في محارم الله .
وقد ذيل الله سبحانه وتعالى النص بقوله تعالت كلماته:{ إن الله كان بكم رحيما}للإشارة إلى ان الله نهى عن هذه المحرمات وأباح هذه المباحات من التجارة بكل أنواعها رحمة بكم ، فكل شرع الله رحمة ، وكل شرع صادر عن رحمة الله التي هي شان من شئونه{[710]} ، كما قال تعالى:{ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين107}[ الأنبياء] .