/م15
تعليق على الآية
{يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ}
وما ينطوي فيها من قرائن وصور
هذا ،وجملة:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} جديرة بالتنبيه ،من حيث انطواؤها على تقرير كون أهل الكتاب كانوا يخفون كثيرا مما عندهم من كتب الله .ومع أن تقرير القرآن فوق مستوى أي شك في صحته مبدئيا ،فإننا لا نشك في أن ذلك كان مما ثبت بوقائع بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعض أهل الكتاب أيضا .ولعل أمر القرآن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بتحدي اليهود بالإتيان بالتوراة في موقف من مواقف مكابرة لهم على ما جاء في آيات سورة الأعراف ( 93 و 94 ) حيث شرحناه من الدلائل الحاسمة بالنسبة لليهود بخاصة .
ولقد آمن فريق من أهل الكتاب بالرسالة المحمدية وبالقرآن ؛لأنهم وجدوا بينهما وبين ما عندهم من الكتاب تطابقا وتوافقا على ما قررته آيات قرآنية عديدة .منها آية الأعراف هذه:{الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} ( 157 ) وآيات القصص هذه:{الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ( 52 ) وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين ( 53 )} وآيات المائدة هذه:{وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ( 82 ) وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( 83 )} ( 1 ){[804]} .
ولقد قلنا قبل: إن هذه الدعوة المستأنفة هي موجهة بخاصة للذين لم يكونوا قد آمنوا بعد من أهل الكتاب .فتكون الجملة قد عنت هؤلاء في الدرجة الأولى .والمتبادر أنهم كانوا ينكرون كثيرا مما عندهم ويخفونه بدافع البغي والمكابرة ،ولئلا يكون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة عليهم مما أشارت إليه آيات عديدة منها آيات البقرة هذه:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 89 ) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 90 )} وهذه{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ( 101 )} وآيات آل عمران:{ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون ( 69 ) يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ( 70 ) يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ( 71 ) وفي آيات سورة آل عمران ( 93 و 94 ) شاهد قوي حاسم
ولقد اتهم القرآن الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب بتحريف ما عندهم من كتب لنفس الدافع على ما جاء في آيات عديدة .منها آيات البقرة هذه:{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( 75 ) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ( 76 )} ومنها آية سورة النساء هذه:{من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه} ( 46 ) وآية سورة المائدة ( 14 ) التي مرت قبل قليل .فجاءت هذه الجملة لتدمغهم بالإضافة إلى ذلك بإخفاء كثير مما عندهم وإنكاره أيضا لنفس الدافع .ولقد كان إيمان الذين آمنوا منهم فاضحا لهم في العملين معا ومصداقا لما قرره القرآن من ذلك بطبيعة الحال .
وقد يكون في هذا وذاك ما ناحية ما تأييد لما فتئنا ننبه عليه من أن ما جاء في القرآن من تقريرات إيمانية وقصص متصلة بتاريخ وعقائد أهل الكتاب ،ولم يرد في أسفار أهل الكتاب المتداولة اليوم ،هو من جملة ما كان في أيديهم وما كانوا يخفونه أو يحرفونه بسبيل الإنكار والمكابرة .وقد ظل هذا دأب الذين لم يؤمنوا بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم .ثم عدت عليه العوادي أو أبيد نتيجة لذلك ،فلم يصل إلى زمننا .وفي أسفار العهد القديم المتداولة اليوم دلائل عديدة على أنه كان هناك أسفار أخرى لم تصل إلينا على ما ذكرناه وسميناه في تعليقنا على كلمة التوراة في سياق الآية ( 157 ) من سورة الأعراف .فيكون في ذلك دلالة من كتبهم التي يتداولونها ويقدسونها على ما قلناه .
وإذا كان كثيرا مما تقدم نتيجة إلى اليهود فإنه وبخاصة الآيات التي نحن في صددها ثم آيات القصص والأعراف يصدق على النصارى أيضا .وآيات سورة المائدة ( 82 و 83 ) التي أوردناها تنطوي بخاصة على موقف فريق من النصارى بصراحة .ومع ذلك ففي تعليقنا على كلمة الإنجيل في سياق آية الأعراف ( 157 ) أوردنا كثيرا من الشواهد التي نحن في صددها على كون النصارى أيضا كانوا يخفون ويبعدون ويحرفون كثيرا من أسفار وقراطيس نتيجة لما كان بينهم من خلاف وشقاق ونزاع .وكان كل فريق منهم يتهم الفريق الآخر بتحريف ما في يده من كتب وقراطيس ( 1 ){[805]}وكان عدد الأناجيل كبيرا جدا حتى ليصل في بعض الروايات إلى عشرين ،وبعضها إلى أكثر ،فاختفى معظمها أو باد أو أبيد .وكان ذلك قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .والنص القرآني صريح بأن ذلك كان قد امتد إلى زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .وإذ أن طوائف كثيرة لم تؤمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وظلت على خلاف وشقاق فيما بينهم أيضا بعده ،فيكون ذلك قد امتد إلى ما بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضا .