{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ( 15 ) يهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( 16 )}
بين الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين أنه أخذ الميثاق على أهل الكتاب من اليهود والنصارى من قبل ، كما أخذه على هذه الأمة الآن ، وأنهم نقضوا ميثاقه ، وأضاعوا حظا عظيما مما أوحاه تعالى إليهم ، ولم يقيموا ما حفظوا منه .وهذا البيان من دلائل نبوته صلى الله عليه وآله وسلم التي هي من معجزات القرآن الكثيرة .ثم ناداهم بعد ذلك ووجه إليهم الخطاب في إقامة الحجة عليهم بقوله عز وجل:
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} قيل إن هذا الآية نزلت في قصة إخفاء اليهود حكم رجم الزاني حين تحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك وستأتي القصة في السورة .والصواب أن الآية على إطلاقها فكان رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم قد بين لأهل الكتاب كثيرا من الأحكام والمسائل التي كانوا يخفونها مما أنزل الله عليهم ، منها حكم رجم الزاني هو مما حفظوه من أحكام التوراة ( كما تراه في 22:20 – 24 من سفر التثنية ) ولم يلتزموا العمل به ، وأنكروه أمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأقسم على عالمهم ابن صوريا وناشده الله حتى اعترف به .فهذا مما كانوا يخفونه عند وجوب العمل به أو الفتوى .وكذلك أخفوا صفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم والبشارات به وحرفوه بالحمل على معان أخرى .اليهود والنصارى في هذا سواء .وهذا النوع غير ما أضاعوه من كتبهم ونسوه البتة ، كنسيان اليهود ما جاء في التوراة من خبر الحساب والجزاء في الآخرة .وما أظهره لهم الرسول مما كانوا يخفونه عنه وعن المسلمين كانت الحجة عليهم فيه أقوى ، لأنهم كانوا يعلمون أنه أمي لم يطلع على شيء من كتبهم ، ولهذا آمن من آمن من علماء اليهود المصنفين واعترفوا بعد إيمانهم بما بقي عندهم من البشارات وصفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
{ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} مما كنتم تخفونه فلا يفضحكم ببيانه .وهذا النص حجة عليهم أيضا لأنهم يعلمون أنهم يخفون عن المسلمين وعن عامتهم كثيرا من المسائل لئلا يكون حجة عليهم إذ هم لا يعلمون أنهم يخفون عن المسلمين وعن عامتهم كثيرا من المسائل لئلا يكون حجة عليهم إذ هم لا يعلمون به ، كدأب علماء السوء في كل أمة:يكتمون من العلم ما يكون حجة عليهم ، كاشفا عن سوء حالهم ، أو يحرفونه تحريفا معنويا بحمله على غير معناه المراد .
{ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} في المراد بالنور هنا ثلاثة أقوال:أحدهما أنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ثانيها أنه الإسلام ، ثالثها أنه القرآن ، ووجه تسمية كل من هذه الثلاثة نورا هو أنها للبصيرة كالنور للبصر ، فلولا النور لما أدرك البصر شيئا من المبصرات ، ولولا ما جاء به النبي من القرآن والإسلام لما أدرك ذو البصيرة من أهل الكتاب ولا من غيرهم حقيقة دين الله ، وحقيقة ما طرأ على التوراة والإنجيل من ضياع بعضها ونسيانه ، وعبث رؤساء الدين بالبعض الآخر بإخفاء بعضه وتحريف البعض الآخر ، ولظلوا في ظلمات الجهل والكفر لا يبصرون .والكتاب المبين هو القرآن ، وهو بين في نفسه مبين لما يحتاج إليه الناس لهديتهم ، ولولا عطفه على النور لما فسروا النور إلا به ، فإن الأصل في العطف أن يكون المعطوف غير المعطوف عليه ، ولكن العطف قد يرد للتفسير ، وهو الذي أختاره هنا لتوافق هذه الآية وما بعدها قوله تعالى في أواخر سورة النساء{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [ النساء:72] وقد قال هنا بعد ذكر هذا النور:يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} .