{ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} فبين مزية النور والكتاب المبين بضمير المفرد فقال:{ يَهْدِي بِهِ} ولم يقل بهما ، فكان هذا مرجحا لكون المراد بهما واحدا وهو القرآن .وثم شواهد أخرى تؤيد ما اخترناه غير آيتي النساء ، كقوله تعالى في المهتدين من أهل الكتاب في سورة الأعراف بعد ذكر بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم{ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [ الأعراف:157] وكقوله تعالى في سورة التغابن{ فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا} [ التغابن:8] على أن هذا المعنى لا يتغير إذا قلنا إن النور هنا هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنه هو المظهر الأكمل للقرآن ببيانه له وتخلقه به كما قالت عائشة ( رض ):كان خلقه القرآن{[738]} .ولا نعدم لذلك شاهدا من آياته فقد وصفه الله تعالى في سورة الأحزاب بقوله:{ وسراجا منيرا} .
وليرجع القارئ إلى تفسيرنا لآيتي النساء اللتين ذكرناهما آنفا فقد بينا في تفسيرهما معنى كون القرآن نورا مبينا بما ينفعه في فهم ما هنا .
وقد ذكر الله هنا لهذا النور ثلاث فوائد:
الأولى:أنه يهدي به من اتبع رضوانه سبل السلام ، أي أن من اتبع منهم ما يرضيه تعالى بالإيمان بهذا النور يهديه – هداية دلالة تصحبها العناية والإعانة – الطرق التي يسلم بها في الدنيا والآخرة من كل ما يرديه ويشقيه ، فيقوم في الدنيا بحقوق الله تعالى وحقوق نفسه الروحية والجسدية وحقوق الناس .فيكون متمتعا بالطيبات مجتنبا للخبائث ، تقيا مخلصا مصلحا ، ويكون في الآخرة سعيدا منعما ، جامعا بين النعيم الحسي الجسدي ، والنعيم الروحي العقلي .وخلاصة هذه الفائدة أنه يتبع دينا يجد فيه جميع الطرق الموصلة إلى ما تسلم به النفس من شقاء الدنيا والآخرة ، لأنه دين السلام والإخلاص لله ولعباده ، دين المساواة والعدل ، والإحسان والفضل .
الفائدة الثانية:الإخراج من ظلمات الوثنية والخرافات والأوهام التي أفسد بها الرؤساء جميع الأديان واستعبدوا أهلها – إلى نور التوحيد الخالص الذي يحرر صاحبه من رق رؤساء الدين والدنيا ، فيكون بين الخلق حرا كريما ، وبين يدي الخالق وحده عبدا خاضعا .وقوله:{ بإذنه} فسروه بمشيئته وبتوفيقه .والإذن العلم .يقال أذن بالشيء إذا علم به ، وآذنته به أعلمته فأذن ، ويقال أذن بالتشديد وتأذن بمعنى أعلم غيره ، ويقال أذن له بالشيء إذا أباحه له ، وأذن له أذنا استمع .والظاهر أن الإذن هنا بمعنى العلم أي يخرجهم من الظلمات إلى النور بعلمه الذي جعل به هذا القرآن سببا لانقشاع ظلمات الشرك والضلال من نفس من يهتدي به ، واستبدال نور الحق بها ، بنسخه وإزالته لها ، فهو إخراج يجري على سنن الله تعالى في تأثير العقائد الصحيحة والأخلاق والأعمال الصالحة في النفوس وإصلاحها إياها ، لا إنه يحصل بمحض الخلق واستئناف التكوين من غير أن يكون القرآن هو المؤثر فيه .
الفائدة الثالثة:الهداية إلى الصراط المستقيم .وهو الطريق الموصل إلى المقصد والغاية من الدين في أقرب وقت ، لأنه طريق لا عوج فيه ولا انحراف فيبطئ سالكه أو يضل في سيره ، وهو أن يكون الاعتصام بالقرآن على الوجه الصحيح الذي أنزله الله تعالى لأجله ، كما كان عليه أهل الصدر الأول قبل ظهور الخلاف والتأويل ، بأن تكون عقائده وآدابه وأحكامه مؤثرة في تزكية الأنفس وإصلاح القلوب وإحسان الأعمال ، وثمرة ذلك سعادة الدنيا والآخرة بحسب سنن الله في خلق الله الإنسان .