{وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ( 8 ) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا( 1 ) عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ( 9 )} [ 8 – 9] .
تعليق على طلب ( الكفار استنزال الملائكة ورد القرآن عليهم )
في الآيات حكاية تحد للكفار يطلبون به أن ينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ملك يؤيد صلته بالله .ورد عليهم أولا: بأن الله تعالى لو أنزل ملكا لكان في ذلك إيذان بحلول أجلهم وقضاء أمر الله فيهم ،وحينئذ لا يبقى إمكان لإمهالهم وينصب عليهم البلاء والتدمير .وثانيا: بأن حكمة الله لو اقتضت إنزال ملك لجاءهم على صورة رجل ،وحينئذ لا تكون المشكلة قد حلت إذ يكون التبس الأمر عليهم ،ولم يروا ما طمعوا في رؤيته على حقيقته .ووقعوا في الشك الذي وقعوا فيه حينما شكوا في أن يرسل الله رسولا من البشر فكانوا سببا في إلباس الله لهم ما ألبسوه لأنفسهم بهذا الشك .
ولم يرو المفسرون رواية ما في صدد المحكي قولهم في الآية الأولى ويلحظ شيء من الفرق بين أسلوب هذه الآية وأسلوب الآية السابقة لها ؛حيث جاءت الآية السابقة بأسلوب المفروض من موقفهم إذا أنزل الله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتابا في قرطاس في حين جاء أسلوب هذه الآية حكاية لطلب وتحد من بعض الكفار .وحيث يسوغ هذا يقال: إن الآيات بسبيل حكاية موقف تحد وجدل وجاهي والرد عليه .وإذا صح هذا تكون الآيات السابقة مقدمة لهذا الموقف ،على أن احتمال كون الآيات استمرار للسياق السابق بسبيل حكاية مواقف الكفار وتحدياتهم المتكررة واردا أيضا ،وفي هذه الحالة يكون ما حكته من تحد قد سبق نزول السورة فأشير إليه في معرض حكاية مواقف الكفار وتحدياتهم .
ولقد تكررت حكاية طلب الكفار استنزال الملائكة ومرت أمثلة من ذلك في السور التي سبق تفسيرها التي سبقت هذه السورة على التوالي أي سور الحجر وهود ويونس ثم في سورتي الإسراء والفرقان قبلها ؛حيث يدل هذا على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر من الجزء الكبير الذي كان يشغله الملائكة في أذهان العرب قبل الإسلام واعتقادهم بوجودهم وصلتهم واختصاصهم بالله وكونهم منفذي أوامره وأصحاب الحظوة لديه .
والجديد هنا هو ذكر كون الله تعالى إذا ما شاء إنزال ملك أنزله في صورة رجل ،وهناك آيات تفيد أن سنة الله جرت على مثل ذلك في الملائكة الذين كان يرسلهم الله إلى بعض أنبيائه .ومن ذلك ما تفيده آيات [ 68 – 80] من سورة هود والآية [ 17] من سورة مريم .
وهناك أحاديث صحيحة أوردناها في تعليقنا على موضوع الملائكة في تفسير سورة المدثر تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتمثل له الملك أحيانا في صورة رجل ،وأن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحوله أصحابه في صورة رجل ،والموضوع في أصله أي موضوع الملائكة مما يجب على المسلم الإيمان بما جاء عنه في القرآن وثبت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم .ثم تفويض الأمر فيه إلى الله ورسوله على ما شرحناه في التعليق المذكور بما يغني عن التكرار مع ملاحظة ما ذكرناه في التعليق من أهداف ومقاصد .
ولقد علل المفسرون المؤولون حكمة الله في إنزال الملك في صورة رجل إذا ما شاء إنزاله على بشر بأن البشر لا يطيقون رؤية الملائكة ،أو أن الملائكة في أصلهم نورانيون لا يمكن أن يراهم البشر .فيشاء الله أن يتمثلوا لهم في صورة رجل ،وعللوا ما روته بعض الأحاديث التي وردت في الصحاح وأوردناها في سياق تعليقنا المذكور والتي تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى الملك في هيئته الأصلية سادا الأفق بأن ذلك خصوصية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والتعليلات وجيهة فيما هو المتبادر .والله أعلم .