/م7
{ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ( 8 )} اقترح كفار مكة أن ينزل على الرسول ملك من السماء يكون معه نذيرا مؤيدا له أمامهم إذ يرونه ويسمعون كلامه كما في سورة الفرقان ( 7:25 ) وما هنا ، وهو حكاية لما هنالك ، فلذلك لم يقل « ملك فيكون معه نذيرا » اكتفاء بما سبق .بل اقترحوا أيضا أن ينزل الملك عليهم بالرسالة من ربهم ، بل طلبوا أكبر من ذلك:طلبوا أن يروا ربهم ويخاطب كل واحد منهم بما يريد من إرسال الرسول إليهم ، كما في سورة الفرقان أيضا ( 21:25 ) وقد قال الله في هؤلاء:{ لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا} نعم إن هذا منتهى الكبرياء والعتو لأنه تسام واستشراف من أظل البشر وأسفلهم روحا إلى ما لا يصل إليه أعلاه مقاما في هذه الحياة الدنيا ، وأما اقتراحهم نزول الملك على الرسول فهو مبني على ضد ما بني عليه طلبهم لنزول الملائكة عليهم أو رؤية ربهم-هو مبني على اعتقاد أن أرقى البشر عقلا وأخلاقا وآدابا وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام ليسوا أهلا لأن يكونوا رسلا بين الله وبين عباده لأنهم بشر يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق-هذه شبهة المتقدمين منهم والمتأخرين:قال تعالى في هود وقومه:{ وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا:ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون*ولئن أطعتم بشرا مثلكم أنكم إذا لخاسرون} [ المؤمنون:33-34] وحكى تعالى مثل هذا عن غيرهم في هذه السورة ( سورة المؤمنين ) وفي غيرها .
ومثل هذا التناقض والتضاد في حكم البشر لأنفسهم وعليها معهود في كل زمان وكل مكان ، فهم يرفعون أنفسهم تارة إلى ما هو أعلى من قدرها بما لا يحصى من الدرجات والمسافات البعيدة السحيقة ، ويهبطون بها تارة إلى ما هو دون استعدادها بما لا يعد من الدركات العميقة .يتسامون تارة للبحث في عالم الغيب من الأزل الذي لا يعرفون أوله ، إلى الأبد الذي لا يدركون نهايته ، وللكلام في كنه الخالق ، وفي كيفية صدور الوجود الممكن عن الوجود الواجب ، فيعترفون تارة بالعجز عن معرفة كنه أنفسهم والقصور عن الإحاطة بأنواع الجنة{[885]} التي تعيش في بنيتهم ، وتأثر في جميع مواد معيشتهم من أطعمتهم وأشربتهم .
يقولون تارة إن هذا الإنسان سيد الأكوان ، ومصداق قول الغزالي:ليس في الإمكان أبدع مما كان ، ويقولون تارة إنه مظهر الظلم والخلل والفساد ، وإنما يعظم أحدهم نفسه أو جنسه في مرآة نفسه ويحقر غيره أو نفسه متمثلة في مرآة جنسه ، ومن هذا الباب إنكار الكفار لبعثة الرسل ، وكانوا تارة يكتفون بجعل البشرية علة للإنكار كما ترى في سورة هود وإبراهيم والإسراء والمؤمنين وياسين والقمر والتغابن-وتارة يصرحون بما في أنفسهم من الكبر واستثقالهم تفضيل الرسل على أنفسهم بإتباعهم إياهم ، وعلى هذا بنوا اقتراح نزول الملائكة عليهم مباشرة أو على الرسل مؤيدة لهم كقول قوم نوح{ ما هذا إلا بشر يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة} [ المؤمنون:24] .
/م8