/م7
الوجه الثاني:في الرد عليهم قوله تعالى:
{ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ( 9 )} أي لو جعل الرسول ملكا لجعل الملك متمثلا في صورة البشر ، ليمكنهم رؤيته وسماع كلامه الذي يبلغه عن الله تعالى ، ولو جعله ملكا في صورة البشر لاعتقدوا أنه بشر لأنهم لا يدركون منه إلا صورته وصفاته البشرية التي تمثل بها ، وحينئذ يقعون في نفس اللبس والاشتباه الذي يلبسونه على أنفسهم باستنكار جعل الرسول بشرا ، ولا ينفكون يقترحون جعله ملكا ، وقد كانوا في غنى عن هذا ، وإنما شأنهم فيه شأن أكثر الناس حتى العلماء منهم فيما يوقعون فيه أنفسهم من المشكلات بسوء اختيارهم ، وما يخترعونه من الشبهات بسوء فهمهم ، ثم يحارون في أمر المخرج منها .
مادة ( ل ب س ) تدل على الستر والغطية .يقال لبس الثوب يلبسه ( بكسر الباء في الماضي وفتحها في المضارع ) وهو من الستر الحسي ، ويقال لبس الحق بالباطل يلبسه ( بفتح باء الأول وكسر باء الثاني ) بمعنى ستره به أي جعله مكانه ليظن أنه الحق ، ولبست عليه أمره أي جعلته بحيث يلتبس عليه فلا يعرفه-وهذا كله من الستر المعنوي .
وقد علل جمهور المفسرين جعل الملك بصورة البشر في هذه الحالة بأن البشر لا يطيقون رؤية الملائكة في صورتهم الأصلية ، وتقدم في تفسير الآية السابقة قول من علل بذلك قضاء الأمر بهلاكهم بمجرد نزول الملك ، واستدلوا على ذلك بتمثل الملائكة لإبراهيم ولوط بصورة الناس وبتمثل جبريل لمريم بشرا سويا ، وظهوره للنبي صلى الله عليه وسلم بصورة دحية الكلبي غالبا وبصورة غيره أحيانا كما في حديث الإيمان والإسلام وغيره ، وذكر بعضهم من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآه في صورته الأصلية مرتين فقط .وقد نازع آخرون في عد هذا خصوصية له صلى الله عليه وسلم إذ لا يثبت ذلك إلا بنص ولا نص في المسألة ، وإنما ورد من حديث ابن مسعود عند الإمام أحمد وحديث عائشة عند الترمذي أنه لم يره في صورته التي خلقه الله عليها إلا مرتين .وقد ورد أن من الصحابة من رأى الملائكة في غير صورة البشر كرؤية أسيد بن حضير لهم في مثل الظلة فيها أمثال المصابيح كما رواه الشيخان عنه ، ولكن هذا تمثيل أيضا .
والمختار عندنا أن البشر في حالاتهم العادية غير مستعدين لرؤية الملائكة والجن في حالتهم التي خلقوا عليها قال تعالى في الشيطان:{ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} [ الأعراف:27] لا لأنهم لا يطيقونها لهولها بل لأن أبصار البشر لا تدرك كل الموجودات بل تدرك في عالمها هذا بعض الأجسام كالماء وما هو أكثف منه من الأجرام الملونة دونما هو ألطف منه كالهواء وما هو ألطف منه كالعناصر البسيطة التي يتألف منها الماء والهواء ، والملائكة والجن من عالم آخر غيبي ألطف مما ذكر .وهذا العالم مما يعده المتكلمون في الفلسفة وراء عالم المادة ، وليس عند المسلمين عالم غير مادي ، ولذلك يعدون الملائكة والجن من الأجسام اللطيفة ، ويقولون إنهم قادرون على التشكل في صور الأجسام الكثيفة ، فمثل تشكلهم كمثل تشكل الماء في صورة البخار اللطيف والبخار الكثيف وصورة المائع السيال وصورة الثلج والجليد ، ولكن الماء يتشكل بما يطرأ عليه من حر وبرد بغير اختيار منه ، وذانك يتشكلان باختيارهما إذ جعل الله لهما سلطانا على العناصر التي تتركب منها مادة العالم أقوى من سلطان البشر الذين يتصرفون فيها بأيديهم لا بأنفسهم وماهياتهم ، فهم لا يقدرون على تحليل أبدانهم وتركيبها مع غيرها من المواد .فإذا تمثل الملك أو الجان في صورة كثيفة كصورة البشر أو غيرهم أمكن للبشر أن يروه ولكنهم لا يرونه على صورته وخلقته الأصلية بحسب العادة وسنة الله في خلق عالمه وعالمهما ، فإذا وقع ذلك كرؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل مرتين كان من خوارق العادات ، والخوارق لا تثبت إلا بنص ، لأنها خلاف الأصل ، على أن رؤيته بصورته لا ينافي التشكل ، إذ يجوز أن تكون مادة صورته اللطيفة التي لا ترى قد ظهرت بمادة كثيفة فيكون التشكل في هذه الحالة بمادة جديدة مع حفظ الصورة الأصلية ، والتشكل في غيرها بالمادة والصورة معا ، على أن لأرواح الأنبياء من التناسب مع أرواح الملائكة ما ليس لغيرها ، ففي الحال التي تغلب بها روحانيتهم على جثمانيتهم يكونون كالملائكة فيجوز أن يروهم بأي صورة وشكل تجلوا لهم فيه .
هذا وإن ما لا يرى قد يدرك بضرب من ضروب الإدراك غير الرؤية فإن كان الملك مخلوقا عاقلا عالما وكان في لطافته من قبيل الأرواح البشرية التي هي محل العلم والإدراك في البشر فلم لا يجوز أن يكون لهذين النوعين من الأرواح الموجودة في هذا الكون نوع من الاتصال يقتبس به أحدهما من الآخر شيئا من العلم ، كما يقتبس البشر بعض العلم البشري من الجو إذ يبث الأخبار فيه بعضهم بالآلات الكهربائية ( المعروفة بالتلغراف اللاسلكي-أو الأثير والهوائي ) يقتبسها الآخرون ؟ بل ثبت أن الأنفس البشرية يقتبس بعضها العلم من الموجودات-بشرا كانت أو غير بشر-بغير واسطة الحواس والاستنباط العقلي ، كما روى بعض الأطباء الماديين الذين كانوا ينكرون مثل هذا عن مريض كان يعالجه في القاهرة أنه قال:إن فلان- وذكر قريبا له في الإسكندرية- يريد أن يسافر الآن إلى مصر لأجل عيادتي ، ثم إنه عين القطار الحديدي الذي ركب فيه ثم الوقت الذي وصل فيه إلى محطة مصر ، ثم لم تكن إلا مسافة سير المركبة بين المحطة ودار المريض إلا وقد وصل هذا القريب ، وكان ينتظره لاستبانة المكاشفة ذلك الطبيب ، وروي عنه غير ذلك من المكاشفات ، ومثل هذا يقع كثيرا في كل عصر ، فلم لا يجوز أن يقتبس البشر العلم بمثل هذه المكاشفة عن الملائكة وأرواح البشر الميتين كما يقتبسونها من أحياء البشر ومن غير البشر من الأشياء ؟
نقول إن هذا جائز عقلا ومروي نقلا ، ولكنه كغيره يتوقف على الفاعل والقابل ، فإذا تدبرنا ما ورد في الكتاب والسنة من خبر الوحي والإلهام يظهر لنا منه أن الإنسان ليس له سلطان على ملائكة السماء ، كسلطانه على ما في الأرض من أبناء جنسه وسائر الأشياء ، فلا يستطيع كل فرد من أفراده أن يدرك هؤلاء الملائكة ويقتبس منهم العلم شاؤوا أم أبوا ، ولكن بعض الأرواح البشرية قد تصل بطهارتها وعلو مكانتها إلى قابلية التلقي عن الملائكة ، لما بينها وبينهم من القرب والمناسبة ، وهذه القابلية نوعان:
أحدهما:ما يختص به الله تعالى أنبياءه ورسله بدون سعي منهم ولا كسب ، فيؤهلهم لنبوته ورسالته ، وينزل عليهم الملائكة بالروح من أمره ، فلا القابل الذي يتلقى عن الملك يكون له كسب أو اختيار فيما يوحى إليه ، ولا الفاعل وهو الملك الذي ينزل بالوحي يكون له اختيار فيما يوحيه ، بل يفعل ما يأمره الله تعالى به ولا يستطيع أن يعصيه .ولكمال استعداد الأنبياء وعلو أرواحهم يرون الملائكة في صورهم الأصلية قليلا .ويتمثل الملك لهم بصورة البشر أو يلابسهم ملابسة روحية فيلقي في أرواحهم ما شاء الله أن يلقيه وهو الأكثر ، وهذا النوع قد ختم وتم ببعثة محمد خاتم النبيين ، عليه أفضل الصلاة والتسليم ، وما هو من شؤون البشر الكسبية ، فيبقى ببقائهم .
النوع الثاني:ما يمنحه الله تعالى من التثبيت في الحق والإلهام لمن دون الأنبياء من خيار خلقه الذين سلمت فطرتهم ، وصفت سريرتهم ، وزكت بالعمل الصالح أنفسهم ، حتى غلبت فيها الصفات الملكية ، على النزعات الحيوانية والنزغات الشيطانية ، فالأرواح البشرية العالية ، قد تقوى المناسبة بينها وبين الملائكة فتستفيد من أرواح الملائكة قوة في الخير والحق وثباتا على الصلاح والإصلاح ،{ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا} [ الأنفال:12] وقد تستفيد منها علما بالحق وبشارة بالخير ، وهو ما يسمى التحديث والإلهام ، ومنه بشارة الملائكة لمريم بعيسى عليه السلام وتمثل جبريل لها عند ما أراد الله أن تحمل بنفخه فيها ، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن عمر بن الخطاب كان من المحدثين{[886]} ، وقد عبر عن ملك الإلهام بأنه « واعظ الله في قلب كل مؤمن » في حديث النواس بن سمعان عند أحمد والترمذي ، ويوضحه حديث ابن مسعود « إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة ، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله تعالى فليحمد الله ، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان »{[887]} رواه الترمذي والنسائي وابن حبان .وعلم عليه في الجامع الصغير بالصحة .
وقد أطال الإمام الغزالي في إيضاح هذا المطلب في كتاب شرح عجائب القلب من الإحياء ، وتقدم في تفسير سورة البقرة من الجزء الأول بحث فيه .والماديون المحجوبون ينكرون مثل هذا « ومن جهل شيئا عاداه » ولو قيل لمن كان على شاكلتهم قبل اكتشاف هذه الجنة ( الميكروبات ) أن في العالم أنواعا كثيرة من المخلوقات الخفية التي لا يمكن أن يراها أحد بعينيه هي سبب الأدواء والأمراض التي لا تحصى ، وهي سبب التغيرات والاختمارات التي نراها في المائعات والفواكه وغيرها-لقالوا إنما هذه خرافة من الخرافات .وقد كان غير المسلمين يعدون من هذا القبيل حديث أبي موسى « الطاعون وخز أعدائكم من الجن وهو لكم شهادة » رواه الحاكم وصححه ، ثم صاروا بعد اكتشاف باشلس الطاعون يتعجبون منه بصدق كلمة الجن على ميكروب الطاعون كغيره ، وقد ورد أن الجن أنواع منها ما هو من الحشرات وخشاش الأرض .
وقد بين الأستاذ الإمام النوع الأول في رسالة التوحيد أكمل بيان ، وبأوضح برهان ، واختصر في بيان النوع الثاني فقال:
« أما أرباب النفوس العالية والعقول السامية من العرفاء ، ممن لم تدن مراتبهم من مراتب الأنبياء ، ولكنهم رضوا أن يكونوا لهم أولياء ، وعلى شرعهم ودعوتهم أمناء ، فكثير منهم نال حظه من الإنس ، بما يقارب تلك الحال في النوع أو الجنس ، لهم مشارفة في بعض أحوالهم على شيء من عالم الغيب ولهم مشاهد صحيحة في عالم المثال لا تنكر عليهم لتحقيق حقائقها في الواقع ، فهم لذلك لا يستبعدون شيئا مما يحدث به عن الأنبياء صلوات الله عليهم .ومن ذاق عرف ، ومن حرم انحرف ، ودليل صحة ما يتحدثون به وعنه ظهور الأثر الصالح منهم وسلامة أعمالهم مما يخالف شرائع أنبيائهم ، وطهارة فطرهم مما ينكره العقل الصحيح ، أو يمحه الذوق السليم ، واندفاعهم بباعث من الحق الناطق في سرائرهم ، المتلألئ في بصائرهم ، إلى دعوة من يحف بهم إلى ما فيه خير العامة ، وترويح قلوب الخاصة ، ولا يخلو العالم من متشبهين بهم ، ولكن ما أسرع ما ينكشف حالهم ، ويسوء مآلهم ، ومآل من غرروا به ، ولا يكون لهم إلا سوء الأثر في تضليل العقول وفساد الأخلاق وانحطاط شأن القوم الذين رزؤا بهم ، إلا أن يتداركهم الله بلطفه ، فتكون كلمتهم الخبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ، فلم يبق بين المنكرين لأحوال الأنبياء ومشاهدهم وبين الإقرار بإمكان ما أنبؤوا به بل وبوقوعه إلا حجاب من العادة ، وكثيرا ما حجب العقول حتى عن إدراك أمور معتادة » .