ثم يعقب الله على ذلك ،أنه إذا أرسل ملكاً فلا بد من أن يكون في صورة البشر وفي ثيابهم ،لأن البشر لا يتحملون صورة الملك الحقيقيّة ،أو لأنَّ صفة الملك قد تبعد عن الرسول دور القدوة ،باعتبار أن قدرة الملك تفوق قدرة البشر:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} .
وإذا حصلت الاستجابة لطلبهم فأرسل الله ملكاً في صورة بشر ،فسيختلط عليهم الأمر ،لأنهم سوف يتصورونه إنساناً لا ملكاً ،وسوف يكذبونه انطلاقاً من بشريته التي تتنافى مع رساليّتهفي زعمهمكما لو كان بشراً حقيقياً ،وسوف يكذبون دعواه في ملائكيته لأنهم لا يتفاعلون مع فكرة تحوّل الملك إلى بشرفي الصورةوبذلك يفقدون الوضوح لدى أنفسهم ،كما حاولوا أن يلبسوا على الناس الآخرين سلامة الفكرة في شخصية الرسول ،فأوقعوهم في الحيرة والتخليط عندما أثاروا أمامهم أن البشرية تنافي الرسولية .ونقل المجمع عن الزجاج قوله: كانوا هم يلبسون على ضَعَفَتِهم في أمر النبي( ص ) فيقولون إنما هذا بشر مثلكم فقال: لو أنزلنا ملكاً فرأوا هم المَلَك رجلاً لكان يلحقهم من اللبس مثل ما لحق صفتهم منهم ،أي: فإنما طلبوا حال لبس لا حال بيان ،وهذا احتجاج عليهم بأن الذي طلبوه لا يزيدهم بياناً ،بل يكون الأمر في ذلك على ما هم عليه من الحَيرة .
وذكر في تفسير هذه الفقرة وجه آخر ،وهو أننا لو أنزلنا ملكاً لما عرفوه إلا بالتفكر ،ولكنهم لا يفكرون فيبقون في اللبس ،وقد نسب الله ذلك إلى نفسه لإنزاله الملائكة الذين هم السبب في إثارة اللبس ،والله العالم .
وفي الآية إشارة إلى أن هؤلاء الناس يعيشون تحت تأثير اللبس لا الوضوح في مواجهة القضايا ،فقد كانوا يلبسون على الناس البسطاء من حولهم باستغلال ضعفهم الفكريّ لإقناعهم بما يريدون من الباطل ،وهذا ما نلاحظه في أسلوب فرعون في حديثه عن نفسه وعن موسى 5 من قوله:{أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الاَْنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفَلاَ تُبْصِرُونَ* أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ *فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [ الزخرف:5154] وربما لبسوا على أنفسهم فخلطوا الأمر عليها ،وذلك لتصورهم الأمور على غير حقيقتها ،بإبراز الحق في صورة الباطل ،أو الباطل في صورة الحق ،فيبتعدون بالفطرة عن مسارها الصحيح ،فيخضعون للأوهام والتخييلات التي تصنع حاجزاً بين الفطرة وبين حركة الإنسان في الوصول إلى النتائج الإيجابية الطيبة .