مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ
يوم الدين هو يوم الجزاء ، وقيل يوم الطاعة ، وقيل يوم الشريعة الحاكم على كل عقيدة باطلة ، ومهما يكن من اختلاف هذه الألفاظ في مدلولاتها الخاصة ، فإن النهاية تتجه إلى أن ذلك اليوم هو اليوم الذي يجازى فيه المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، وهو الذي تجد فيه كل نفس ما عملت محضرا ، يعلن ما تستحق من عقاب أو ثواب .
و{ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فيه قراءات تختلف في أشكالها ، ولا تختلف في مضمونها فقرئ هكذا:مالك يوم الدين ، وقرئ:مليك يوم الدين ، وقرئ:ملك يوم الدين ، وقرأ أبو حنيفة رضي الله عنه:ملك يوم الدين ، وقرئ:مالكا يوم الدين ، وقرئ:مالك . والقراءات كلها تنتهي إلى معنى واحد ، وإن كانت تختلف في أعاريبها ، والنص العثماني يشملها جميعا ، ولا تخالف في النص المتواتر ، بيد أن قراءة النصب ( مالكا ) تكون حال من الذات العلية ، أي أنه الرب للوجود كله والمنعم عليه بجلائل النعم ؛ جليها وخفيها ، حال كونه مالكا من بعد ذلك ليوم الجزاء ، الذي يجزى كل نفس ما كسبت ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، و( يوم الدين ) تكون ظرفا غير مضاف إليه ، وكذلك في قراءة الرفع مع التنوين يكون يوم الدين ظرفا للملك وكمال السلطان .
وقراءة ( مالك ) تفيد أن كل شيء مملوك لله تعالى في ذلك اليوم ، فالنفوس في مآلها وفي نهايتها ملك لله ، ومستقبلها القريب والبعيد لله لا تملك من أمرها شيئا ، بل كما قال تعالى:{ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ 19} [ الانفطار] وإذا كان سبحانه وتعالى يملك كل شيء في هذا اليوم ؛ فالسلطان ، والتدبير له ، وحده الذي يملك الجزاء ، والمغفرة إذا أراد ، ولا إرادة لسواه ، إنه الحكم العدل اللطيف الخبير .
و( ملك ) ، ( ملك ) ، الفرق بينهما وبين قراءة ( مالك ) كالفرق بين المصدرين ، الملك ، والملك ، فالملك استيلاء على الأشياء يكون مردها إليه ، والملك السلطان بالأمر والنهي وتنفيذ ما يريد ، وألا يكون معه آمر ولا ناه ولا حاكم سواه ، ولا إرادة فوق إرادته ، ولا حكم فوق حكمه .
ويلاحظ أن معنى الملك يتضمنه بالاقتضاء معنى الملك ؛ لأن من ملك شيئا ملك السلطان فيه ، والسيطرة عليه ، فالملك يقتضي الملك والسلطان ، والملك لا يقتضي الملك والسلطان ؛ ولذلك يقال سبحان مالك الملك ، ولا يقال ملك الملك .
ورأينا أن كل قراءة متواترة قرآن ، وأن القرآن لا يخالف بعضه بعضا ، بل قد يتم بعضه بعضا ، وليس لنا أن نراجع بين قراءة وقراءة ، لأن كلتيهما تتمم الأخرى .
وخلاصة القول في القراءتين أن قراءة ( ملك يوم الدين ) موضحة لما تضمنته ( مالك يوم الدين ) ، ولا نتصور أن تتعارض قراءتان متواترتان ؛ لأن القرآن لا يضرب بعضه بعضا . وفي الإعراب ( مالك ) أو ( ملك ) مضاف إلى يوم الدين على أنه هو المسيطر المتصرف المالك لأحداث ذلك اليوم من جزاء:ثواب أو عقاب أو مغفرة ، أنه واقع لا محالة ، وأن ما فيه في ملكه وتحت سلطانه وحده .
وإن اسم الفاعل يدل على الاستقبال ، فلا يقال إنه مالك لليوم واليوم لم يجئ ، وإن الأزمان الماضي والحاضر والمستقبل كلها بالنسبة لله تعالى واحدة .
هذا ، ويلاحظ أن الأسماء أو الصفات هي كما أشرنا من قبل من قبيل السبب لانفراد الله تعالى بالحمد الكامل ، فالربوبية الكاملة بالإنشاء لهذا الوجود وما فيه ومن فيه ، وتعهده بالإنماء والتربية والتهذيب والتكميل ، والرعاية لكل شيء ، وإن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ، ولئن زالتا ما أمسكهن أحد من بعده ، ثم رحمته الظاهرة و الباطنة ، والعاجلة والآجلة التي تعم الوجود كله من سماء وأرضين ، وشموس ونجوم ، ورحمته الخاصة بعباده العاقلين المكلفين من قبول للتوبة ، وغفران ، وثواب .
ثم كونه بعد ذلك مالكا وحده ليوم الجزاء ، كل هذه الأسماء والصفات من شأنها أن تجعله مستحقا للحمد الكامل بكل ضروبه ، وفي كل الأحوال ، وذلك بربوبيته الشاملة ، ورحمته الكاملة ، وامتلاكه وحده ليوم الجزاء .
وإن الأسماء أو الصفات كما أنها سبب لانفراده باستحقاق الحمد ، هي أيضا سبب لانفراده بالعبادة والاستعانة ، وطلب الهداية ، وقد التفت الكلام الحكيم من بعد ذلك من الإخبار باستحقاق الحمد لله تعالى وحده ، وبيان جليل أسمائه إلى ذكر ما ينبغي للمؤمن من إفراده بالعبادة والاستعانة به دون غيره ، والضراعة إليه في طلب الهداية ؛ لذا قال سبحانه: