إن الله تعالى قد أنزل آياته وشرائعه يهدي بها من يهتدي ، ومن ضل فإنما يضل عليها ، ووصفها أمام الأعين البصيرة والآذان المستمعة والقلوب المستقيمة ، وأنه يؤاخذ الناس بما كسبوا فإن استقاموا على الطريقة كانت الهداية وإن لم يستقيموا كان الضلال ، ولذا قال تعالى:{ إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون 44} .
إن الله وضع كل أسباب الهداية أمام الناس وأرسل الرسل مبشرين ، وما كان ليعذبهم إلا إذا أرسل إليهم من ينذرهم بالعذاب الأليم ، إن لم يسلكوا سبيل الحق واختاروا سبيل الضلال وأفسدوا في الأرض بعد أن أضلوا عقولهم ؛ ولذا قال تعالى:{ إن الله لا يظلم الناس شيئا} .
أصل"ظلم"بمعنى أنقص ، وأطلقت على ما هو ضد العدل والاستقامة ، وأطلقت على الشرك ؛ لأنه انحراف بالعقل عن الاستقامة والطريق السوي ، وقال تعالى:{. . . إن الشرك لظلم عظيم13}( لقمان ) .
والظلم هنا إما أن نفسره بمعنى النقص ويكون المعنى أن الله لا ينقص الناس شيئا بل يوفر لهم أسباب الهداية والإرشاد من:إرسال الرسل ، وإقامة الشرائع وآيات الله والتنبيه إليها ، ومنحهم العقول التي تدرك ، وحرية الاختيار فيما يفعلون ، ويوجد سبحانه فيهم قوي الإدراك . كما قال تعالى:{ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلككم تشكرون 78}( النحل ) ، وإما أن نقول:إن الظلم المنفي هنا هو عدم العدل ، ويكون المعنى على ذلك أن الله تعالى لا يظلم الناس شيئا في الظلم مهما قل ؛ لأنه أوجد فيهم الاختيار والإدراك وجعل تحت أيديهم أسباب الهداية ، فإن ضلوا فعن بينة وإرادة حرة مختارة ، والله تعالى يحصي أعمالهم ويجزيهم عليها ، كما ورد برواية مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث قدسي عن ربه:"يا عبدي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه"{[1300]} .
وإذا كان الله تعالى لا يظلم أي قدر من الظلم قل أو جل فإن نزول العذاب بالناس بظلمهم لأنفسهم ؛ولذا قال تعالى:{ ولكن الناس أنفسهم يظلمون} .
وهذا استدراك من النفي السابق ، وإذا كان الله لا يظلمهم فهم يظلمون أنفسهم ، وقدم المفعول على الفعل للاختصاص أو القصر ، أي هم يظلمون أنفسهم ولا يظلمون سواها ، كما سبق قوله تعالى:{. . . إنما بغيكم على أنفسكم . . . .23} وذلك ؛ لأن الظالم يقع ظلمه على نفسه ابتداء ؛ لأنه يفسد فطرته وتكون غشاوة على قلبه فتنقص مدراكه وتسوء معاملته ، ويسئ إلى نفسه ثم يتردي في أسباب الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة .
يقول تعالى: