/م42
{ إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} أي الله تعالى لم يكن من شأنه ولا من سنته في خلق الناس أن ينقصهم شيئا من الأسباب التي يهتدون باستعمالها إلى ما فيه خيرهم ومنافعهم من الأعمال الاختيارية الموصلة إلى سعادة الدنيا والآخرة ، وهي الحواس والعقل وسائر القوى ، فالظلم هنا بمعناه اللغوي الأصلي ، وهو نقص ما تقتضي الخلقة الكاملة وجوده ، كقوله تعالى:{ كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا} [ الكهف:33]{ ولَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي يظلمونها وحدها لأن عقاب ظلمهم واقع عليهم دون غيرهم ، فهم يجنون عليها بكفرهم بما أنعم الله عليهم من هدايات المشاعر والعقل والدين ، وهو عدم استعمالها فيما منحهم إياها لأجله من اتباع الحق في الاعتقاد ، والهدى في الأعمال ، وهو الصراط المستقيم الموصل إلى سعادة الدارين ، المنجي من عذابهما .
وقرأ حمزة والكسائي ( ولكن ) بتخفيف النون ، ( الناس ) بالرفع .
وقد وضع الإسلام الظاهر موضع الضمير إذ قال: "ولكن الناس "، ولم يقل: "ولكنهم "للإشارة إلى أن هذا الظلم خاص بهم دون سائر أنواع الحيوان ، فإنها لا تعدو في استعمال مشاعرها وقواها ما خلقت لأجله من حفظ حياتها الشخصية والنوعية ، وأما الناس فقد يستعملونها فيما يضرهم في حياتهم الحيوانية الدنيوية ، وفي حياتهم الروحية الأخروية ، كما قال:{ أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هو أضل سبيلا} [ الفرقان:44] ، وقدم المفعول ( أنفسهم ) على عامله لإفادة قصر هذا الظلم على أنفسهم دون غيرهم ، أو دون ربهم الذي كفروا بنعمه ، كما قال تعالى في بني إسرائيل من سورة البقرة [ الآية:54] وسورة الأعراف{ وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} [ الأعراف:159] .
هذا هو المتبادر في هذا المقام من نفي ظلم الناس عن الله تعالى وقصره على أنفسهم ، ويحتمل أن يراد به أنه تعالى لا يظلمهم بعقابه لهم شيئا بأن يعاقبهم على غير ذنب ، أو يزيد على قدر الذنب ، ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم بذنوبهم دون غيرهم ، على قاعدة{ ولا تكسب كل نفس إلا عليها} [ الأنعام:164] الآية ، فراجع تفسيرها مع ما هنا ، وحاسب نفسك ، وذكر غيرك ، ولا تجعلوا هذه الحكم البليغة حكاية للتسلية بهجو الكفار ، فإنما هي حقائق هادية للموعظة والاستبصار .