{ ويَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ ومَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ 45}
هذه الآية للتذكير بمقدار ظلم المشركين لأنفسهم ، وخسارتهم لها في الآخرة بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكفرهم بالقرآن ووعيده لهم ، وغرورهم بدنياهم الحقيرة ، مصداقا للآية التي قبلها ، قال:
{ ويَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} أي واذكر أيها الرسول لهم أو أنذرهم يوم يحشرهم الله .وهذه قراءة حمزة عن عاصم ، وقرأها الباقون ( نحشرهم ) بالنون ، أي نجمعهم ببعثهم بعد موتهم ونسوقهم إلى مواقف الحساب والجزاء .
{ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} أي كأنهم لم يمكثوا في الدنيا إلا مدة قليلة من النهار ريثما يعرف فيها بعضهم بعضا كأولي القربى والجيران ثم زالت ، فإن الساعة يضرب بها المثل في قلة المدة .فالتشبيه بيان لحالهم في تذكرهم للدنيا ، يعني إن هذه الحياة الدنيا التي غرتهم بمتاعها بالحقير الزائل قصيرة ستزول بعذابهم أو موتهم ، وسيقدرون يوم القيامة قصيرها بساعة من النهار لا تسع أكثر من التعارف القليل ، كما قال في آخر سورة الأحقاف{ كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار} [ الأحقاف] ، وفي سورة الروم{ ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون} [ الروم:55] ، وفي معناها قوله تعالى في آخر النازعات عن الساعة{ كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} [ النازعات:79] ، وفي آيات أخرى أن أهل الموقف يختلفون في هذا التقدير ، أي بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك اليوم ، فإنه تعالى قال بعد آية سورة الروم{ وقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ والْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ ولَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [ الروم:56] وفي سورة المؤمنون{ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [ المؤمنون:112114] ، وفي سورة طه يختلفون بين اليوم والعشر .وقيل:إن المعنى أنهم يتعارفون بينهم يوم يحشرون كأنهم لم يتفارقوا لقصر مدة الفراق .وثم أقوال أخرى في التشبيه يبطلها ما أوردنا من الآيات في شواهده .
{ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ} أي خسروا السعادة الأبدية ؛ إذ لم يستعدوا له بالإيمان وعمل الصالحات المزكية للنفس ، المرقية للروح ، بما تكون أهلا لكرامته ومثوبته ، ورضوانه الأكبر في جناته ، فآثروا عليها حياة الدنيا القصيرة الحقيرة ، المنغصة بالأكدار ، السريعة الزوال ، التي يقدرونها يوم الحشر بساعة من نهار .والجملة بيان مستأنف منه تعالى لخسران الذين كذبوا بلقاء الله من أهل مكة وغيرهم ، ولذلك ذكرهم بصفتهم المقتضية له- وهي التكذيب- وعطف عليه{ ومَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [ البقرة:16] فيما اختاروه لأنفسهم من إيثار الخسيس الفاني على النفيس الخالد الباقي .أو هي معطوفة على جملة"قد خسر "، أي خسروا تجارتهم وأنفسهم ، وما كانوا مهتدين إلى أسباب النجاة والربح من الأعمال الصالحة هي ثمرات الإيمان ، كما قال{ فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} [ البقرة:16] ، وقد تقدم ذكر الذين لا يرجون لقاء الله تعالى في الآيات 7 ، 11 ، 15 من هذه السورة ، وتقدم ذكر خسرانهم في سورة الأنعام [ الآية:31] .