/م46
{ وإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} هذه جملة شرطية ، زيدت ( ما ) في حرف الشرط ( إن ) ونون التوكيد في فعله فكان توكيده مزدوجا .
والمراد بالآية تأكيد وقوع ما وعد الله هؤلاء المشركين من العقاب في الدنيا والآخرة بشرطه فيهما لا يتخلف منهما شيء في جملتهما ، سواء أرى الله النبي صلى الله عليه وسلم بعض القسم الأول منه وشاهده ، أم توفاه قبل إراءته إياه . فإبهام الله تعالى إياه للحكمة المقتضية له في أوائل البعثة من جهة قربه أو بعده ، ورؤيته صلى الله عليه وسلم له وعدم رؤيته ، لا يفيدهم شيئا ، وسنبين هذه الحكمة في إبهامه .
فالمعنى وإن نرينك أيها الرسول بعض الذي نعدهم من العقاب في الدنيا فذاك ، وفيه إشارة إلى أنه سيريه بعضه لا كله .
{ أَوْ نَتَوفَّيَنَّكَ} بقبضك إلينا قبل إراءتك إياه .
{ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} وعلينا حسابهم ، حيث يكون القسم الثاني منه وهو عقاب الآخرة ، ويجوز أن يجعل هذا جواب الشرط بقسميه ، والمعنى فإلينا وحدنا يرجع أمرهم في الحالين .
{ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} بعدك أو مطلقا فيجزيهم به على علم وشهادة حق .
والمراد أنه لا فائدة لهم مما حكاه تعالى عنهم في تربصهم موت النبي صلى الله عليه وسلم ، واستراحتهم من دعوته ، ونذره بموته ، كما تراه في سورة الطور وآخر سورة طه ، فالعذاب واقع ما له من دافع .
وقد ورد بمعنى هذه الآية قوله تعالى:{ فَاصْبِرْ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [ غافر:77] ويليها آية بمعنى الآية التي تلي هذه ذكر فيها الرسل وكون آياتهم بإذن الله لا من كسبهم ، والقضاء على أقوامهم بالهلاك بعدها ، ومنها قوله بعد آية في إرسال الرسل وكون آياتهم إنما هي بإذن الله ولكل أجل كتاب:{ وإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [ الرعد:40] ، وما بعدها في معنى السياق الذي هنا .وقوله:{ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ} [ الزخرف:41] وقبلها{ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ ومَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [ الزخرف:40] وهو بمعنى ما قبل هذه أيضا .
وقد أبهم أمر عذاب الدنيا في كل هذه الآيات وآيات أخرى ، فلم يصرح بأنه سيقع بهم ما وقع بالأمم التي كذبت الرسل من قبلهم- وهو عذاب الاستئصال-لكنه أشار إليه في قوله:{ قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [ المؤمنون:93] ، أي كما هي سنتك في رسلك الأولين ، وقد أجاب الله دعاءه فقال:{ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} [ الأنفال:33] .
وحكمة هذا الإبهام التخويف من جميع أنواع الوعيد ، مع علمه تعالى أن عذاب الاستئصال لن يقع على قومه صلى الله عليه وسلم ؛ لأن شرطه أن يجيئهم ما اقترحوا من آية كونية ويصروا بعد التكذيب ولن يقع ، ولكن في آية يونس هذه إشارة إلى أن الله تعالى سيري رسوله بعد نزولها بعض الذي يعدهم لا كله ، وقد أنجز له ذلك فأراه ما نزل بهم من القحط والمجاعة بدعائه عليهم ، ونصره عليهم أعظم النصر في أول معركة هاجمه بها رؤساؤهم وصناديدهم- وهي غزوة بدر- وفي غيرها إلى فتح عاصمتهم الكبرى أم القرى ، وإكمال الدين ودخول الناس فيه أفواجا ، وقد تقدم بيان ذلك كله في مواضعه .