{ إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} .
الضمير في{ خلقهم} يصح أن يعود إلى الناس ، ويكون الاستثناء في قوله:{ إلا من رحم} استثناء من الاختلاف ويكون المعنى ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة في الهداية والتقوى والفضيلة ، ولكنه لم يشأ ذلك إلا في الذين رحمهم ، وتكون( اللام ) للتعليل ، أي أن الله تعالى خلق الناس متنازعين في الخير والشر ، ولا يهتدي إلى الخير إلا الخلصاء الأطهار ، ولذلك خلق الناس مختلفين لتبيين الصفوة ، ولتصل إلى الخير في وسط أشواك من الباطل فيكون لهم فضل الجهاد في الوصول إلى الحق .
ويصح أن يعود الضمير إلى قوله تعالى:{ إلا من رحم} أي المستثنى ويكون المعنى كالأول في نتيجته ، وغايته اى أن الله تعالى خلق الناس مختلفين متعاركين يخلص الصفوة المرضية ، ولأجل تلك الصفوة ، والمؤدي في التخريجين أن الله تعالى خلق الناس كذلك ليميز الله الخبيث من الطيب ، كما قال تعالى:{ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب . . . 179} ( آل عمران ) .
وإن القلة التي يرحمها الله بالإيمان ، والكثرة هي تكون في النار ، ولذا قال تعالى:
{ وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة و الناس أجمعين} .
أشار سبحانه وتعالى إلى الذين رحمهم الله تعالى ، وفي هذا النص يذكر الذين عصوا أمر ربهم ، والرحمة بهم ليست من عدل الله ، لأنهم لم يرحموا أنفسهم ، ومن لا يرحم لا يرحم ، فقال تعالى:{ وتمت كلمة ربك} .
وتمام الكلمة إحكامها بحيث لا يتغير ، ولا تتبدل ، ولا تتخلف ، وكلمة الله تعالى هي أمره الذي ظهر في قوله . وفي الكلام قسم مطوي دلت عليه اللام في{ لأملأن} فهي لام القسم ، ونون التوكيد ملازمة للقسم فهي أيضا دالة عليه ، وقوله تعالى:{ من الجنة والناس أجمعين} .
{ من} هنا لبيان من يملأ منهم ، و{ الجنة} الكلام على تقدير العصاة أي من عصاة الجن ، وعصاة الإنس ، والجن عبر عنهم بالجنة ، والإنس عبر عنهم بالناس كما في قوله تعالى:{ من الجنة والناس 6} ( الناس ) .
وقدر عصاة لأمرين:
الأمر الأول:أن الجزاء بجهنم كما في عرف القرآن ، وكما هو العقل – يكون للعصاة .
الأمر الثاني:أن الناس مختلفون ، فذكر الله تعالى أهل الطاعة ، وتفضل عليهم برحمته ، فقال فيما سلف{ إلا من رحم} والمخالفون لهم هم العصاة ، وكان بمقتضى التقسيم أن تكون لهم جهنم ، وقد تأكد أنهم يملأونها .
وعلى ذلك تكون كلمة{ أجمعين} تأكيد ، بأن العصاة كلهم سيدخلون جهنم ، وتمتلئ بهم لا يفر منها جبار ، ولا نافخ نار .
وإذا أريد جنس الجنة ، وجنس النار يكون الظاهر ، أنه لا ينجو من أحد الجنسين أحد ، ويكون التأكيد لبيان أنه يستوي الجنسان ، في ألا يغادرها أحد ، كما تقول ملأنا الحقيبة من أوراق امتحان الشريعة ، والمدني والجنائي ، جميعا ، أي فيها الأصناف جميعا غير متخلف بها صنف من هذه الأصناف .
ولا شك أن التقدير الأول أظهر وأبين ، وسياق القول يقتضيه ، ولقد روى في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اختصمت الجنة والنار ، فقالت الجنة:مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس . وقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين ، فقال الله تعالى للجنة:أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ، وقال للنار:أنت عذابي أنتقم بك ممن أشاء ، ولكل واحدة منكما ملؤها . فأما الجنة:فلا يزال فيها فضل حتى ينشئ الله خلقا يملأ فضل الجنة ، وأما النار فلا تزال تقول:هل من مزيد ، حتى يضع عليها رب العزة قدمه فتقول قط قط"{[1327]} ، والله أعلم .
القصص لتثبيت النبي ووعظ المؤمنين
قال تعالى: