وقوله:( إلا من رحم ربك ) أي:إلا المرحومين من أتباع الرسل ، الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين . أخبرتهم به رسل الله إليهم ، ولم يزل ذلك دأبهم ، حتى كان النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمي خاتم الرسل والأنبياء ، فاتبعوه وصدقوه ، ونصروه ووازروه ، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة; لأنهم الفرقة الناجية ، كما جاء في الحديث المروي في المسانيد والسنن ، من طرق يشد بعضها بعضا:"إن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة ، وإن النصارى افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا فرقة واحدة ". قالوا:ومن هم يا رسول الله ؟ قال:"ما أنا عليه وأصحابي ".
رواه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة
وقال عطاء:( ولا يزالون مختلفين ) يعني:اليهود والنصارى والمجوس ( إلا من رحم ربك ) يعني:الحنيفية .
وقال قتادة:أهل رحمة الله أهل الجماعة ، وإن تفرقت ديارهم وأبدانهم ، وأهل معصيته أهل فرقة ، وإن اجتمعت ديارهم وأبدانهم .
وقوله:( ولذلك خلقهم ) قال الحسن البصري في رواية عنه:وللاختلاف خلقهم .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس:خلقهم فريقين ، كقوله:( فمنهم شقي وسعيد ) [ هود:105] .
وقيل:للرحمة خلقهم . قال ابن وهب:أخبرني مسلم بن خالد ، عن ابن أبي نجيح ، عن طاوس; أن رجلين اختصما إليه فأكثرا فقال طاوس:اختلفتما فأكثرتما ! فقال أحد الرجلين:لذلك خلقنا . فقال طاوس:كذبت . فقال:أليس الله يقول:( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) قال:لم يخلقهم ليختلفوا ، ولكن خلقهم للجماعة والرحمة . كما قال الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال:للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب . وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة . ويرجع معنى هذا القول إلى قوله تعالى:( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ الذاريات:56] .
وقيل:بل المراد:وللرحمة والاختلاف خلقهم ، كما قال الحسن البصري في رواية عنه في قوله:( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) قال:الناس مختلفون على أديان شتى ، ( إلا من رحم ربك ) فمن رحم ربك غير مختلف . قيل له:فلذلك خلقهم ؟ [ قال] خلق هؤلاء لجنته ، وخلق هؤلاء لناره ، وخلق هؤلاء لرحمته ، وخلق هؤلاء لعذابه .
وكذا قال عطاء بن أبي رباح ، والأعمش .
وقال ابن وهب:سألت مالكا عن قوله تعالى:( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) قال:فريق في الجنة وفريق في السعير .
وقد اختار هذا القول ابن جرير ، وأبو عبيدة والفراء .
وعن مالك فيما رويناه عنه في التفسير:( ولذلك خلقهم ) قال:للرحمة ، وقال قوم:للاختلاف .
وقوله:( وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) يخبر تعالى أنه قد سبق في قضائه وقدره ، لعلمه التام وحكمته النافذة ، أن ممن خلقه من يستحق الجنة ، ومنهم من يستحق النار ، وأنه لا بد أن يملأ جهنم من هذين الثقلين الجن والإنس ، وله الحجة البالغة والحكمة التامة . وفي الصحيحين عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال:قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم:"اختصمت الجنة والنار ، فقالت الجنة:ما لي لا يدخلني إلا ضعفة الناس وسقطهم ؟ وقالت النار:أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين . فقال الله عز وجل للجنة ، أنت رحمتي أرحم بك من أشاء . وقال للنار:أنت عذابي ، أنتقم بك ممن أشاء ، ولكل واحدة منكما ملؤها . فأما الجنة فلا يزال فيها فضل ، حتى ينشئ الله لها خلقا يسكن فضل الجنة ، وأما النار فلا تزال تقول:هل من مزيد ؟ حتى يضع عليه رب العزة قدمه ، فتقول:قط قط ، وعزتك ".