/م116
{ إلا من رحم ربك} منهم فاتفقوا على حكم كتاب الله فيهم ، وهو القطعي الدلالة منه الذي لا مجال للاختلاف فيه ، وعليه مدار جمع الكلمة ووحدة الأمة ، إذ الظني لا يكلفون الاتفاق على معناه ؛ لأنه موكول إلى الاجتهاد الذي لا يجب العمل به إلا على من ثبت عنده رجحانه ، وتقدم تفصيل وحدة البشر ، فاختلافهم ، فبعثة النبيين ، وإنزال الكتاب معهم للحكم بين الناس في الآية [ البقرة:213] ، وتفسيرها في الجزء الثاني من هذا التفسير .
{ ولذلك خلقهم} أي ولذلك الذي دل عليه الكلام من مشيئته تعالى فيهم خلقهم مستعدين للاختلاف ، والتفرق في علومهم ومعارفهم وآرائهم وشعورهم ، وما تبع ذلك من إرادتهم واختيارهم في أعمالهم ، ومن ذلك الدين والإيمان والطاعة والعصيان ، وحكمته أن يكونوا مظهرا لأسرار خلقه المادية والمعنوية في الأجسام والأرواح وسننه في الأحياء ، وتعلق قدرته ومشيئته بخلق جميع الممكنات ، وبهذا كانوا خلفاء الأرض{ وعلم آدم الأسماء كلها} [ البقرة:31] .وقال الحسن وعطاء:خلقهم للاختلاف ، وقال مجاهد وعكرمة:خلقهم للرحمة ، وقال ابن عباس:خلقهم فريقين:فريقا يرحم فلا يختلف ، وفريقا لا يرحم فيختلف ، فذلك قوله:{ فمنهم شقي وسعيد} [ هود:105] ، وهذا أصح مما قبله لأنه جامع للقولين .
وفي معناه قول مالك بن أنس وقد سأله أشهب عن الآية فقال:خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير اه .أي كان الاختلاف سبب دخول كل من الدارين ، وفي الرواية عن ابن عباس تقديم المعلول على العلة ، والمعقول المشروع عكسه ، فالترتيب في الجزاء أن يقال:فريق اتفقوا في الدين ، فجعلوا كتاب الله حكما بينهم فيما اختلفوا فيه ، فاجتمعت كلمتهم ، وكانوا أمة واحدة ، فرحمهم الله بوقايتهم من شر الاختلاف وغوائله في الدنيا ومن عذاب الآخرة ، وفريق اختلفوا فيه كما اختلفوا في مصالح الدنيا ومنافعها وسلطانها ، فكان بأسهم بينهم شديدا ، فذاقوا عقاب الاختلاف والشقاق في الدنيا وأعقبهم جزاءه في الآخرة ، فكانوا محرومين من رحمته بظلمهم لأنفسهم لا بظلم منه لهم .
{ وتمت كلمة ربك} التي قالها في غير المهتدين{ لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} أي من عالمي الإنس والجن الذين لا يهتدون بما أرسل به رسله وأنزل معهم كتبه لهداية المكلفين والحكم بين المختلفين ، ففي سورة ألم السجدة{ ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم} [ السجدة:13] ، فهذا فريق السعير ، ومنه يعلم جزاء الفريق الآخر ، والمقام يقتضي الإنذار .