وإنهم يتعللون لكفرهم الطاغي بأنهم لم تجئ إليهم آية تثبت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ، ويطالبون بآية كونية ، كالآيات التي جاءت للأنبياء السابقين مستهينين بالآيات المتوالية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم أو غافلين عنها{ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء إليه من أناب ( 27 )} .
إن هذا من تعنتهم ومحاولة إعانتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، وحالهم كحال الأعمى الذي لا يحسن أن يعيش في ضوء الشمس وحرارتها ، ويقول لا توجد شمس ولا دفء ، وما العيب إلا في مشاعره التي إيفت ، فهو ينكر ما لا يحس به ، طلبوا ملكا رسولا ، وطلبوا أن تفجر الأنهار ، وغير ذلك من المطالب التي ساقوها ، وما هي إلا تعلات الكفر والإشراك ، ولقد تحداهم القرآن أن يأتوا بمثله أو بعشر آيات من مثله فعجزوا ، وكان عجزهم دليلا على أنه من عند الله ، ولقد أمر الله سبحانه وتعالى نبيه أن يرد عليهم بأن الذي دفع إلى طلب هذه الآيات هو ضلالهم ، وإصرارهم على الكفر والعناد ، وقد جاءت هذه الآيات وأشباهها لمن سبقوهم وكفروا وضلوا سواء السبيل ، أمر الله نبيه فقال:{ قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب} .
{ أناب} رجع ، أي رجع إليه ، وابتدأ السير في طريق الهداية ، فإن الله يأخذه بيده حتى يصل إلى نور ربه ، والمعنى:الذين كتب الله تعالى عليهم الضلالة ، وهم الذين ساروا في طريق الغواية يكتبهم سبحانه من الضالين فتعمى قلوبهم عن إدراك ما في الآيات من أمارات الحق وهدايته ، وإن كانت هي في ذاتها منيرة بينة ، أما الذين عادوا إلى ربهم وأنابوا إليه فإنه يهديهم إليه سبحانه وتعالى .
وهذا يفيد أن الذين يريدون آية غير القرآن وغير ما جاء على يديه من خوارق العادات كالإسراء والمعراج إنما يريدون هذه الآية إمعانا في ضلالهم .
وهنا إشارات بيانية نذكرها:
أولاها:التعبير بالمضارع في قوله تعالى:{ ويقول الذين كفروا} فيها إشارة إلى تكرار قولهم هذا وهم مبطلون .
الثانية:التعبير بالموصول يدل على أن الصلة علة الطلب ، فكفرهم هو علة طلبهم ، أي أنهم سبقوا إلى الكفر فاعتنقوه ، ثم حاولوا الاستدلال لتأييده ، فما طالبوا ببراءة ، طالب الحق بل حكموا أولا وأخذوا يتعنتون لإثبات ما هم عليه ومثلهم كمثل القاضي الذي يحكم ثم يحاول تقديم البينة لإثبات ما حكم به .
الثالثة:أن الهداية تكون لمن فتح قلبه للرجوع إلى الله ، ولذا عبر بالماضي في قوله:{ من أناب} أي من فتح قلبه للإنابة إلى الله ، فأخذ الله سبحانه وتعالى بيده إلى الحق ، والتعبير بالمضارع في قوله تعالى:{ ويهدي إليه} ، للإشارة إلى تكرار الهداية بشرطها من غير إجبار على كفر ، ولا طاعة ، بل الطاعة بالإرادة ، ولذا كان الثواب والمعصية بإرادة العاصي ؛ ولذا كان العقاب .
وقد قال الزمخشري في الكشاف في قوله تعالى:{ يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب} قال ما خلاصته:كيف كان قوله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب ردا لقولهم:{ لولا أنزل عليه آية من ربه} ؟ فأجاب بأن قوله تعالى يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب كلام جار مجرى التعجب من قولهم ؛ وذلك من الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤتها نبي قبله ، وكفى بالقرآن وحده آية ، وراء كل آية ، فإن جحدوها ولم يعتبروا بها وجعلوه كأن آية لم تنزل عليه قط ، كان موضعا للتعجب والاستنكار ، فكأنه قيل لهم ما أعظم عنادكم ، وما أشد تصميمكم على كفركم ، إن الله يضل من يشاء من كان على صفتكم من التصميم وشدة الشكيمة ، فلا سبيل إلى اهتدائكم وإن نزلت كل آية{[1363]} .
وإن ذلك بيان يليق بمقام الزمخشري في البيان ، وإدراك ملامح القول ، وهو لا ينافي ما بينا من قبل ، وإن زاد معنى التعجب من صلابة تفهم .
وأناب في قوله تعالى:{ ويهدي إليه من أناب} معناها:أقبل إلى الحق ، ودخل في توبة الخير ؛ لأن أناب معناها اللغوي دخل في التوبة ، والمناسب هنا دخوله في توبة الخير .