وإن المشركين كانوا يغترون بمالهم ونفوذهم ، والمؤمنون كانوا في أكثرهم فقرا وضعفا وكانوا يعقدون ملازمة بين رضا الله والفقر ، فمن كان غنيا فهو موضع رضا الله ، ومن كان فقيرا ضعيفا فهو موضع مقت الله تعالى ، فازدادوا بذلك كفرا وطغيانا ، فبين الله سبحانه أنه لا ارتباط بين الغنى والإيمان ، ولا بين الضعف والكفر .
وقال تعالت كلماته:{ الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ( 26 )} .
صدر سبحانه وتعالى الآية الكريمة بلفظ الجلالة الذي يطالبهم الله تعالى بعبادته وحده من غير أن يشركوا به شيئا ، ويبين سبحانه أنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ، أي يمده ويجعله ممدودا واسعا ، ويقدره لمن يشاء أي يجعله محدودا قليلا ، كقوله تعالى:{. . .ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها . . .( 7 )} [ الطلاق] .
والمعنى في تصدير الآية بلفظ الجلالة هو أن الله تعالى هو الذي بسط لكم قدر الرزق للضعفاء والفقراء فصبروا فحق لهم التكريم وحسن الجزاء ، ولا يستوي المحسن والمسئ ، ولا الأعمى والبصير .
وإن الله الذي بسط الرزق وقدره لم يجعل أمرا الدنيا في السعة والضيق دليلا على الرضا أو البغض إنما هذا للاختبار ، فهو سبحانه وتعالى يختبرنا بالتوسعة ويطالب بالشكر ، ويختبر بالقدر والضيق ويطالب بالصبر ، وكل له جزاؤه .
وإن أولئك المشركين بسط الله تعالى لهم في الرزق فلم يشكروا ؛ ولأن الشكر يقتضي أن يحسوا بفضل المنعم ، لا أن يحس فقط بالاستمتاع بما أعطى ، والاستطالة به على الناس وإن ذلك ينشأ من الفرح ببسط الرزق ، لا ينشأ من القيام بحق الشكر ؛ لأن إحساس المؤمن بأنها ابتلاء ، كما قال تعالى:{. . .ونبلوكم بالشر والخير فتنة . . .( 35 )} [ الأنبياء] ، وإحساس الكافر بأنها متعة ينتهزها .
ولقد قال في ذلك:{ وفرحوا بالحياة الدنيا} أي إن الكافرين فرحوا بما بسط الله تعالى من الدنيا ، ففرحوا بها فرحا أدى إلى أن بطروا معيشتهم ، وغمطوا الناس حقوقهم ، وإن فرحهم بالحياة الدنيا لم يكن فرحا يذوقون حلوها ومرها ، بل فرح استعلاء واستغواء لا يلاحظون إلا أنها متعتهم يستكبرون بها على غيرهم ، وينسون في سبيل ذلك كل حق عليهم ، ولا يعرفون أن المتعة حق يتبعه واجب ، وبذلك تكون متعة لا يعقبها خير في الآخرة ينالون به نعيما مقيما ؛ إذ لم يلتفتوا إلى الآخرة وما فيها ،{ وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} التنكير في{ متاع} للتحقير لا للتكبير ، أي الإمتاع نزر قليل ، لا بقاء له ، لأنه سرعان ما يزول إذ هو في الدنيا ، والدنيا زائلة ، ويقول الزمخشري في ذلك:( وخفى عليهم أن نعيم الدنيا في جنب نعيم الآخرة ليس إلا شيئا نزرا به كعجالة الراكب ، وهو ما يتعجله به من تميرات ، أو شربة سويق أو نحو ذلك ){[1362]} .
ولقد ذكر الله تعالى في آيات أخر ، مثل قوله تعالى:{. . .قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا ( 77 )} [ النساء] ، وقوله تعالى:{ بل تؤثرون الحياة الدنيا ( 16 ) والآخرة خير وأبقى ( 17 )} [ الأعلى] ، وقوله تعالى:{ أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين ( 55 ) نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ( 56 )} [ المؤمنون] .