الإنعام .
جزاء كفر النعمة وجزاء مكرها
التبديل معناه التحويل ، أو جعل شيء بدل شيء ، ومعنى تبديل نعمة الله كفرا في قوله تعالى:{ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا} أنهم جعلوا بدل النعمة التي تستوجب الشكر كفرا ، فالذين أعطوا نعمة بدل أن ينتفعوا بها في وضعها موضعها من الشكر عليها كفروا بها ، وكثيرون من ذوي النعم الذي أنعم الله عليهم بالثراء استعلوا به فجعلوه كفرا ، ومن أنعم الله تعالى عليه بجاه في الدنيا بدلوا كفرا ، فاستغلظوا واستعلوا ، وجعلوا جاههم غرطسة وكبرا ، وبطروا معيشتهم .
وكذلك أهل مكة في الجاهلية أكرهم الله تعالى بمقامهم حول البيت الحرام ، وتلك نعمة أنعم الله بها عليهم ، فبدل أن يقوموا على سدانته وطهارته وضعوا عليه الأوثان ، فاستبدلوا بالنعمة كفرا ، وكذلك أنعم الله عليهم وعلى البشرية ببعث محمد صلى الله عليه وسلم ، فبدلوا كفرا وعاندوه وآذوه وأصحابه ، وأعم الله تعالى عليهم برحلتي الصيف والشتاء ، وأن تكون مكة وسط البلاد العربية تغدو منها المتاجر وتروح إليها بين اليمن والشام فبدلوها كفرا ، واتخذوها ربا الجاهلية ، وأكلوا السحت ، وكذلك اليهود بدلوا نعمة الله إلى كفر ، أعطاهم الله تعالى علم الكتاب فغيروا وبدلوا واستطالوا على الناس ، وقالوا نحن أبناء الله وأحباؤه ، وظلموا الناس وأكلوا أموالهم سحتا ورشوة ، وقالوا:{. . .ليس علينا في الأميين سبيل . . .( 75 )} [ آل عمران] ، وهكذا .
ولذا نقول:إن الآية عامة تشمل كل من أنعم الله عليه بنعمة ، فبدل أن يضعها في موضعها يتخذها أداة للطغيان والضلال ، فتكون كفرا ، وأنهم بسبب ذلك الطغيان الذي يستخدمون النعمة طريقا له ويكفرون{ وأحلوا قومهم دار البوار} ، أي الهلاك ، أي ينزلون قومهم من عزة الإنسانية إلى الذل فيكون ذلك طريقا لانحدارهم إلى الهلاك ، وأصحاب النعم التي يكفرونها هم الذين يفسدون أقوامهم ، ويأخذونهم إلى حيث الفناء ، وفناء الأمم والأقوام بشيوع الكفر والجحود فيها .
وقال الزمخشري:"إن تبديل النعمة كفرا ، معناه تبديل شكر النعمة كفرا ، وقد ذكر وجوها كثيرة فقال:{ بدلوا نعمت الله} ، أي شكر نعمة الله{ كفرا} ؛ لأن شكرها الذي وجب عليهم وضعوا مكانه كفرا فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر ، وبدلوه تبديلا ونحوه{ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ( 82 )} [ الواقعة] ، أي شكر رزقكم ؛ حيث وضعتم الكذب موضعه ، ووجه آخر ، وهو أنهم بدلوا نفس النعمة كفرا على أنهم لما كفروها سلبوها ، فبقوا مسلوبي النعمة ، موصوفين بالكفر حاصلا لهم بدل النعمة ، وهم أهل مكة أسكنهم الله تعالى حرمه ، وجعلهم كرام بنبيه فأكرمهم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فكفروا نعمة الله بدل ما لزمهم من الشكر العظيم ، أو أصابهم الله بالنعمة في الرخاء والسعة لإيلافهم الرحلتين ، فكفروا نعمته فضربهم بالقحط سبع سنين ، فحصل لهم الكفر بدل النعمة كذلك حين أسروا وقتلوا يوم بدر ، وقد ذهبت عنهم النعمة ، وبقى الكفر طوقا في أعناقهم ، وعن عمر رضي الله عنه هم الأفجران من قريش ، بنوا المغيره ، وبنوا أمية ، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر ، وأما بنو أمية ، فمتعوا حتى حين". هذه وجوه ذكرها إمام البيان الزمخشري ، ونحن لا نقيد عموم القرآن ببلد أو جماعة إلا أن يكون لفظ الكريم ، يوحى بالتخصيص بدل التعميم ، واللفظ هنا فيه بيان لأحوال النفوس الإنسانية عندما تحيد عن أمر ربها ، وخلاصة الوجوه بعد إخلائها من التخصيص بقوم أو قبيل أنها تتجه إلى أن التبديل في الشكر ، فيكون الكلام على حذف مضاف ، بدلوا شكر النعمة كفرا ، أو يكون التبديل في ذات النعمة فلم ينتفعوا بها الانتفاع الطيب وبدلوا كفرا .