{ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ( 27 )} .
يثبت الله الذين آمنوا بأن يلقى في روعهم الاطمئنان إلى الحق والجزم به والنطق بمقتضاه ، والثبات عليه لا يحيد عن النطق بالحق والعمل به ، والرضا بنتائجه ؛ ولذا قال سبحانه:{ بالقول الثابت} ، ولقد قرر العلماء أن صاحب النفس المطمئنة الراضية بحكم الله المنفذة لتكليفه يلقى الله فيها بالإخلاص ، والإخلاص لله يجعل النفس تشرق بنور الله ، فتدرك فتؤمن فتقول الحق وتعمل به ، ويكون من بعد ذلك السلوك الاجتماعي المستقيم بأمر الله ونهيه ، فمعنى{ بالقول الثابت} القول الذي يقوم على دعائم الحق ، ولا يتزلزل لباطل ، ويصح أن نقول:إن الثبات صفة لصاحب القول ، وأضيفت إلى القول ؛ لأنه لا يثبت القول إلا بثبات صاحبه الذي لا تزلزله عوابث الهوى ولا أوهام الشيطان ، وما أحكم ما قاله الزمخشري إذ يقول رضي الله عنه:"القول الثابت هو الذي يثبت بالحجة ، والبرهان في قلب صاحبه ، وتكمن فيه فاعتقده ، واطمأنت إليه نفسه ، وتثبيتهم به في الدنيا أنهم إذا فتنوا في دينهم لن يزلوا ، كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم ، وتثبيتهم في الآخرة أنهم إذا سئلوا عند تواقف الأشهاد عن معتقداتهم ودينهم لم يتلعثموا ولم يبهتوا ولم تحيرهم أهوال الحشر".
هذا كلام صدق ، وإن القول الثابت كما يشمل الصبر في العقيدة يدخل في عمومه الثبات على الحق في نصيحة الحاكم ، والامتناع عن قول الباطل مداهنة له ، ويقول للحاكم الظالم:اتق الله ، ويكررها كلما اقتضت الحال قولها في غير مواربة ، إلا إذا كانت الحكمة أن يداور لأجل إيصال الحق إلى قلب الحاكم ، وتسويغه في نفسه ، فللقول سياسة ، وللعلم سياسة ومنها تسويغ الحق ليهضم معناه ، وخصوصا في أزمان الفساد كالزمن الذي نعيش فيه ، ولعل الإمام الزمخشري عاش في مثله ، وما ضيع المسلمين إلا سكوتهم عن القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة . وقوله تعالى:{ ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} معنى إضلال الظالمين أنهم إذا ساروا في طريق الضلالة أوغلوا فيه ولا يردهم سبحانه وتعالى عنه بل يزكيهم سبحانه يسيرون فيه إلى نهايته ، ووصفهم بالظالمين فيه إشارة إلى أنهم يبدءون بالسير في طريق الظلم الذي يشمل الظلم في الاعتقاد بالإشراك ، والظلم للنفس بارتضاء طريق الشر ، والظلم للناس في معاملاتهم ، وفتنة الناس في دينهم وإيذائهم في اعتقادهم .
{ ويفعل الله ما يشاء} ؛ لأنه المختار المريد ، لا يسأل عن يفعل وهم يسألون .
ويلاحظ أن لفظ الجلالة ذكر مرتين في جملتين متعاقبتين ، ولم يكتف بالإضمار بل أظهر في موضعه ، فقال سبحانه:{ ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} وذلك لتربية المهابة أولا ، ولبيان كمال سلطانه ثانيا ، وتأكيد إرادته المختارة ومشيئته الحكيمة ثالثا ، والله ولي