وبما أنّ الآيات السابقة جسّدت حال الإيمان والكفر ،الطيّب والخبيث من خلال مثالين صريحين ،فإنّ الآية الأخيرة تبحث نتيجة عملهم ومصيرهم النهائي ،يقول تعالى: ( يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة )لأنّ إيمانهم لم يكن إيماناً سطحياً وشخصيتهم لم تكن كاذبة ومتلوّنة ،بل كانت شجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السّماء ،وبما أنّ ليس هناك من لا يحتاج إلى اللطف الإلهي ،وبعبارة أُخرى: كلّ المواهب تعود لذاته المقدّسة ،فالمؤمنون المخلصون الثابتون بالاستناد إلى اللطف الإلهي يستقيمون كالجبال في مقابل أيّة حادثة .والله تعالى يحفظهم من الزلاّت التي تعتريهم في حياتهم .ومن الشياطين الذين يوسوسون لهم زُخرف الحياة ليزلّوهم عن الطريق .
وكذلك فالله تعالى يثبّتهم أمام القوى الجهنّمية للظالمين القُساة ،الذين يسعون لإخضاعهم بأنواع التهديد والوعيد .
ومن الطريف أنّ هذا الحفظ والتثبّت الإلهيين يستوعبان كلّ حياتهم في هذه الدنيا وفي الآخرة ،فهنا يثبّتون بالإيمان ويبرؤون من الذنوب ،وهناك يُخلدون في النعيم المقيم .
ثمّ يشير إلى النقطة المقابلة لهم ( ويضلّ الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ) .
قلنا مراراً: إنّ الهداية والضلال التي تنسب إلى الله عزّ وجلّ لا تتحقّقان إلاّ بأن يرفع الإنسان القدم الأوّل لها ،فالله عزّ وجلّ عندما يسلب المواهب والنعم من العبد أو يمنحها له يكون ذلك بسبب استحقاقه أو عدم استحقاقه .
ووصف «الظالمين » بعد جملة «يضلّ الله » أفضل قرينة لهذا الموضوع ،يعني ما دام الإنسان غير ملوّث بالظلم لا تسلب الهداية منه ،أمّا إذا تلوّث بالظلم وعمّت وجوده الذنوب ،فسوف يخرج من قلبه نور الهداية الإلهيّة ،وهذه عين الإرادة الحرّة .وبالطبع إذا غيّر مسيره بسرعة فطريق النجاة مفتوح له ،ولكن إذا استحكم الذنب فإنّ طريق العودة يكون صعباً جدّاً .
بحوث
1هل القصد من الآخرة في الآية هو القبر ؟
نقرأ في روايات متعدّدة أنّ الله يثبت الإنسان على خطّ الإيمان عندما يواجه أسئلة الملائكة في القبر ،وهذا معنى الآية ( يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) .
ولقد وردت كلمة «القبر » بصراحة في بعض هذه الرّوايات{[2000]} .
ولكن هناك رواية شريفة عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال: «إنّ الشيطان ليأتي الرجل من أوليائنا عند موته عن يمينه وعن شماله ليضلّه عمّا هو عليه ،فيأبى الله عزّ وجلّ له ذلك ،وهو قول الله عز ّوجلّ: ( يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ){[2001]} .
وأكثر المفسّرين يميلون إلى هذا التّفسير ،طبقاً لما نقله المفسّر الكبير العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان ولعلّ ذلك يعود إلى أنّ الآخرة ليست محلا للأعمال ولا للانحراف ،بل هي محلّ الحصول على النتائج فحسب ولكن عند وقوع الموت وحتّى في البرزخ ( الذي هو عالم بين الدنيا والآخرة ) قد تحصل بعض الهفوات ،فهنا يكون اللطف الإلهي عاملاً في حفظ وثبات الإنسان .
/خ27