ثم أخبر سبحانه عن فضله وعدله في الفريقين:أصحاب الكلم الطيب ، وأصحاب الكلم الخبيث . فأخبر أنه يثبت الذين آمنوا بإيمانهم بالقول الثابت أحوج ما يكونون إليه في الدنيا ، والآخرة ، وأنه يضل الظالمين ، وهم المشركون عن القول الثابت . فأضل هؤلاء بعدله لظلمهم ، وثبت المؤمنين بفضله لإيمانهم .
تحت هذه الآية كنز عظيم ، من وفق لمعرفته وحسن استخراجه واقتنائه وأنفق منه فقد غنم ، ومن حرمه فقد حرم .
وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله له طرفة عين ، فإن لم يثبته الله ، وإلا زالت سماء إيمانه وأرضه عن مكانهما ، وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه عبده ورسوله:{ ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا} [ الإسراء:74] وقال تعالى لأكرم خلقه صلى الله عليه وسلم:{ إذا يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا} [ الأنفال:12] وفي «الصحيحين » من حديث البجلي قال:«وهو يسألهم ويثبتهم » .
وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:{ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} [ هود:120] .
فالخلق كلهم قسمان:( موفق بالتثبيت ، ومخذول بترك التثبيت ) .
ومادة التثبيت أصله ومنشؤه من القول الثابت ، وفعل ما أمر به العبد ، فبهما يثبت الله عبده ، فكل من كان أثبت قولا وأحسن فعلا كان أعظم تثبيتا ، قال تعالى:{ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا} [ النساء:66] .
فأثبت الناس قلبا:أثبتهم قولا .
و( القول الثابت ):هو القول الحق والصدق . وهو ضد القول الباطل الكذب .
فالقول نوعان:( ثابت له حقيقة ، وباطل لا حقيقة له ) .
وأثبت القول:كلمة التوحيد ولوازمها ، فهي أعظم ما يثبت الله بها عبده في الدنيا والآخرة . ولهذا ترى الصادق من أثبت الناس وأشجعهم قلبا ، والكاذب من أبغض الناس وأخبثهم وأكثرهم تلونا ، وأقلهم ثباتا ، وأهل الفراسة يعرفون صدق الصادق من ثبات قلبه وقت الإخبار وشجاعته ومهابته . ويعرفون كذب الكاذب بضد ذلك ، ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة .
وسئل بعضهم عن كلام سمعه من متكلم به ؟
فقال:والله ما فهمت منه شيئا إلا أني رأيت لكلامه صولة ليست صولة مبطل .
فما منح العبد أفضل من منحة القول الثابت ، ويجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج ما يكونون إليه في قبورهم ، ويوم معادهم .
كما في «صحيح مسلم » من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن هذه الآية نزلت في عذاب القبر » .