آية الله تعالى في خلقه
بعد أن ذكر جلت حكمته ما أصاب الذين فسقوا عن أمر ربهم ، وارتكبوا أشد المفاسد ونزل بهم أشد المهالك ذكر أن الكون ما خلق عبثا إنما خلق لحكمة أرادها فقال سبحانه:{ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق} ، ما خلق هذه الثلاث:سموات ذات أبراج ، وأرض ذات طبقات ، وما بينهما من فضاء فيه عجائب ، وفيه أحياء ، وفي أسرار للوجود التي لا يدركها الذين يرتفعون و ينخفضون ، إنما يدركون المؤمنون برب هذا الوجود ، ما خلق ذلك إلا بالحق إلا بأمر ثابت مؤكد الحصول هو غاية الوجود ، ما خلق الناس ليتمتعوا ، ويأكلوا ، ويلهوا ويعبثوا ، ما خلق الله ذلك بغير حكمة ظاهرة ، ولا نهاية قاهرة ، وإنما خلقها ليعمر هذا الوجود ، وتسوده الفضيلة ، وتبعد عنه الرذيلة ، ويحكمه الخير ، ولا يحكمه الشر ، ويكون الحساب من بعد ذلك ؛ ولذا قال:{ وإن الساعة لآتية} ، أي أن الله يمنع الشر في الدنيا ، بالقضاء على الأشرار الذين لا يرجى منهم خيرا ، بل يغلب عليهم الفساد ، كما رأيت في عاد وثمود ، ومن قبلهم قوم لوط ، ومن بعدهم فرعون ذو الأوتاد .
وإنه بعد الدنيا سيجئ يوم القيامة ، وعبر عنه بالساعة إشارة إلى أنها ساعة فاصلة بين حياة دنيا فيها لهو ولعب ، وحياة فيها الحساب والجزاء ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، إنها للجنة أبدا ، أو للنار أبدا ، وهي الساعة التي لا يدرك كنهها إلا عند نزولها ، وهي الجديرة وحدها بأن تسمى ساعة ، وقد أكد سبحانه وتعالى مجيئها باللام وب ( أن ) .
{ فاصفح الصفح الجميل} ، ( الفاء ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، وجه هذا الترتيب أن العصاة ينالون العذاب والبوار وفي الآخرة الساعة تنتظرهم ، وإذا كانت هذه حالهم ، فلا يغيظك ما يفعلون ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات ، بل استمر في دعوتك معرضا عن إثمهم وإيذائهم ، وفتنهم لمؤمنين ، فإنهم ملاقو ذلك في دنياهم بالتغلب عليهم ، وفي آخرتهم بالجزاء على ما صنعوا .
وقوله تعالى:{ فاصفح الصفح الجميل} ، والصفح يتضمن الإعراض عن الإساءة وعدم التخلي عن الدعوة والاستمرار فيها ، وتضمنت كلمة الجميل بيان أن يلقاهم بقلب مفتوح ليفتحوا قلوبهم للاستجابة ، أو ليفتح هو هذه القلوب التي أصابتها غشاوة .
وفي هذا إشارة إلى معنى جليل في الداعي ، وخصوصا الرسول الأمين رسول رب العالمين ، وهو أن الداعي لا يستفزه غضب ولا يثيره أذى ، ولا يمنعه تجهم وسوء معاملة ، بل يجب أن يكون البشير النذير دائما في قرب للقلوب ، وإدناء للنافر وإيناس للشارد ؛ لأنه الطبيب المداوي ، وليس الحاكم المسيطر{ لست عليهم بمسيطر ( 22 )}{ الغاشية} .
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ذا شخصية قوي عالية ، من شأنها أن تعلوا دائما ، وهي ترهب الفجار ، ولكن لم يدع محمد صلى الله عليه وسلم في مكة إلا بقوة الدليل ، وبالنفس الأليف التي تقرب ولا تبعد .
وكانت تلك الشخصية الجبارة تبدو من حين لحين تعلن عن وجودها ، جاء رجل يطلب دينا من أبي جهل فاستعان بملأ من قريش ، فأشاروا عليه بأن يستعين بصاحب هذه الدار مسيرين إلى دار النبي تهكما بالرجل وبالنبي معا ، ولعل الذين استعانهم من أشكال أبي جهل فالرجل الغريب ذهب إلى النبي ، فأشكاه الرسول القوى ، وذهب به إلى دار أبي جهل ، فصك داره صكة ارتعدت فرائص أبي جهل لها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله الحازم الآمر:"أد الرجل دينه"، فدخل وأعطاه الدين صاغرا .
وما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليستخدم تلك الشخصية التي تفرض الحق على من يخاطبه ، إنما تطامن ، ورضى بأن يكون الداعي غير الغليظ إدناء للنفوس .
هذا معنى الصفح الجميل ، أي الإعراض في قرب ومودة وإلف من جانبه ؛ ولذا كان الإسلام ، ينموا ويزيد ، ولا ينقص ويقل .