كانت الآيات السابقات تدعو إلى النظر في نعم الله التي احتوتها الأرض من أشجار وزروع وثمار وإلى ما في السماء من شمس وقمر ، ونجوم مسخرات بأمره ، وما في اتصال الأرض بالسماء ، وفي الآية التالية دعوة إلى النظر في البحر وما فيه من نعم فقال تعالت كلماته:
{ وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ( 14 )} .
الضمير ( هو ) يعود إلى الله تعالى ، وذكر الموصول لبيان سلطان الله تعالى ، وللإشارة إلى أنه سبحانه هو الذي ذلل البحر لمنافعهم ، وتمكنهم مما فيه ، وليس صيدهم هو الذي مكنهم ، بل تسخير الله البحر لهم كان نعمة لهم وتمكينا من نفعهم ، وقوله:{ لتأكلوا منه لحما طريا} ، ووجه الأكل إلى لحمه مباشرة وفيه إشارة إلى أنه لا يزكى ، بل يؤكل ميتا ، ولذا روى في الأثر "أحل لنا ميتتان حلالان السمك والجراد"{[1380]} وعبر سبحانه وتعالى أيضا بقوله:{ لحما طريا} ، ولم يقل سمكا ؛ لأن في البحر ما ليس بسمك ، حيوانات تشبه البحر ، والظاهر أنها حلال وفيها ضخم يكفى الألوف ، كالحيوان البحري المسمى الترسة ، وكالحوت وفرس البحر ، وغير ذلك ، وكلها لحم طري .
وقد وصف القرآن اللحم الذين يؤخذ من البحر بأنه لحم طري ؛ لأنه فعلا طري ، وعظمه قليل ، ولا يتخلل أجزاء جسمه ، بل هو في موضع معين والذي يتخلل جسمه شيء صغير يسميه العامة "سفا"، ويقول الزمخشري في وصفه بأنه طرى للإشارة إلى أنه سريع العفن ، وأنه ضار إذا تعفن ، وفي ذلك نظر ، فإنه إذا وضع الملح عليه لم يكن ضارا في تعفنه ، وهو المتفسخ منه ، وقد أنكره أطباء عصرنا وزماننا ثم أباحوه بل استحسنوه ، وقرروا أن فيه سرا طبيا ، وإن لم يعرفوه .
وحرم التفسخ الحنفية ؛ لأنه ضار ، وقد علمت ما فيه .
و{ اللام} في قوله تعالى:{ لتأكلوا} هي لام الغاية أي ذلله وسخره لتأكلوا منه لحما بعد صيده ، وإنضاجه ، وفيه مواد غذائية كبيرة ، مملوءة بالقشور ، وغيرها .
وإذا كان ذلك الطعام فيه منفعة مرئية طيبة فالبحر وعاء للجواهر المختلفة ، ولذا قال:{ وتستخرجوا منه حلية تلبسونها} وهي ما يسمونه بالأحجار الكريمة ومن لآلئ ، وزمرد ، وغيرهما مما يتحلى به النساء وبعض المرفهين من الرجال ، وإن لم يتشبهوا بالنساء .
وتوهم بعض المفسرين أن التحلي بالجواهر حرام ، وقاسوه على التحلي بالذهب ، ولكن الثابت في الآثار أن التحريم مقصور على الذهب على أنه روى أن بعض الصحابة قال:إنه لا تحريم ، ولكن قالوا:إن ذلك من شواذ الأقوال ولقد ذكر الشوكاني في "نيل الأطوار"أن هناك عشرين من الصحابة لم يحرموا الذهب على الرجال ، ولكن لم يذكر من هم ولم يذكر من أسند هذا القول إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
ومهما يكن فإن الجواهر والآلئ والزمرد والياقوت ، وغيرها من الأحجار الكريمة ، كالماس والكهرمان ونحوها لم يثبت تحريمها إلا أن يتخذها عقدا كما يتخذها النساء فإن ذلك يكره للتشبه بالنساء .
والنفع الثالث الذي ذكره القرآن الكريم من المنافع التي سخرها الله تعالى:الفلك ، فقال تعالى:{ وترى الفلك مواخر فيه} ،{ مواخر} جمع ماخرة ، وهي السفينة التي تشق الماء حتى يكون لها صوت يسمع ، ولا يكون إلا للمراكب الكبيرة التي تحمل الأمتعة والأشياء ، ولو كانت شراعية ، وإنك لترى المراكب الشراعية ذوات الشراع المختلفة المتعددة وفي ذلك إشارة إلى نعمة التنقل في البحار ، وقد كانت من بعد عصر القرآن الأساس في نقل البضائع والرجال من بلد إلى بلد ، حتى إنه ليقاس عمران البلاد بمقدار شواطئها على البحار وتمكنها من الانتقال في الأقطار ، وقد عمم الله سبحانه بيان انتفاع الإنسان بالبحار ،{ ولتبتغوا من فضله} سبحانه وتعالى ، و ( الواو ) في قوله:{ ولتبتغوا} عاطفة على فعل محذوف هو ثمرة لقوله تعالى:{ وترى الفلك مواخر فيه} لتنقلهم من أرض إلى أرض وبلد إلى بلد ، وإقليم إلى إقليم ، ولترتبطوا بأقطار الأرض ، ولتبتغوا من فضله ، أي لتطلبوا فضل الله الذي أفاض به أقطار الأرض ، فيتقل كل إقليم ما يفيض من فضل الله إلى الإقليم الآخر ، والابتغاء:الطلب بالشدة .
وقوله في منفعة الفلك:{ وترى الفلك مواخر فيه} ، أي أن رؤيتها ذات متعة للأنظار ، كما أن النعم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ، كما قال تعالى:{ ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام ( 32 )} [ الشورى] فالجواري تربط الأرض بعضها ببعض ، وتربط الإنسان بأخيه الإنسان حيثما كان وأنى سيكون .
وقال تعالى:{ ولعلكم تشكرون} ، أي أسبغ عليكم هذه النعم الظاهرة والباطنة لترجو شكر الله على ما أنعم لا ليكفروا بها ، وكما قال تعالى:{. . .لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ( 7 )} [ إبراهيم] .