تنبيه وإنذار
كان المشركون من وقت أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم بأمر ربه لا يفكرون فيما اشتملت عليه من حق ، ولا في ماضيه الذي يدل على الصدق والأمانة ، وأنه كان الأمين فيهم حتى سمى بذلك ، ولا في حقيقة ما يدعو إليه ، ولا في حقيقة ما هم عليه من عبادة الأحجار التي لا تضر ولا تنفع لا يفكرون في شيء من ذلك ، إنما يفكرون في مقاومة الدعوة وصدوا عن غير المقاومة صدودا ، ودبروا لإيذاء المستضعفين ، والسخرية بالمؤمنين ، والاستهزاء بأهل الحق ويقتلون الذروة والغارب ليقضوا على الدعوة ، حتى إنهم ليقتسمون مداخل مكة ، ليشوهوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا الحجيج ، يفعلون كل ذلك ونسوا أن الله قد ينزل بهم العذاب ؛ ولذا قال تعالى منها لهم منذرا:
{ أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ( 45 )} .
( الفاء ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها وهو حالهم التي هم عليها ، ولكن تأخرت الفاء ؛ لأن الصدارة تكون للاستفهام والمعنى أفعلوا ما فعلوا ودبروا السوء ، وآذوا ودبوا الأمور المسيئة في نفسها أفأمنوا أن يخسف الله تعالى بهم الأرض ، بأن تنحط الأرض حتى تبتلع ديارهم وأموالهم ، أغفلوا وأمنوا مكر الله وقد دبروا السيئات وفعلوا وأرادوا ، ويميل بعض المفسرين إلى أن السيئات وصف لموصوف محذوف تقديره "أفأمن الذين مكروا المكرات السيئات"، ونحن نرى أنه لا حاجة إلى تقدير موصوف محذوف ؛ لأن المكر وهو التدبير متجه إلى إنشاء السيئات فهم دبروا السيئات في إيذاء المستضعفين ، ودبروا السيئات في الأقوال والأفعال وطوال إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بينهم في مكة ، لم يتركوا نوعا من السيئات إلا دبروها .
وهم يعلمون قوة الله القاهرة ، وأنه الذي يلجأ إليه في الملمات ، فلم يكونوا جاهلين لها ، وإن عبدوا مع الله الأحجار والأوهام ، فإذا نبههم الله تعالى بأنه قادر على خسف الأرض من تحتهم فهم لا يجهلون ذلك .
وقد قال تعالى منبها لهم ، ومثيرا لعلمهم بقدرة الله تعالى:{ أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور ( 16 ) أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير ( 17 )} [ الملك] .
ثم قال تعالى:{ أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون} ، ( أو ) عاطفة{ العذاب} ، هو العذاب الدنيوي المدمر كالذي نزل بقوم لوط ، فجعل الله عالي الأرض سافلها ، أو تأتيهم ريح صرصر عاتية ، أو ريح فيها عذاب شديد ، يكون مفاجئا لهم لا يعلمون بوقوعه ، ولا يتوقعونه وهذا معنى لا يشعرون ، أي لا يعلمون ولا يتوقعون بل ربما كانوا يرجون الخير ، كقوله تعالى في عاد:{ فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم ( 24 )} [ الأحقاف] .