وبعد أن بين سبحانه أن كون أمة أربى من أمة هو بمشيئة الله وإرادته مع بقاء الاختيار للعباد أكد سبحانه وتعالى النهي عن نقض الوفاء بالعهد فقال:
{ ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب أليم ( 94 )} .
كان النهي عن اتخاذ الأيمان دخلا أي غشا وخديعة في العهود ؛ لأن الكلام كان في العهود ونقضها ، إذ ابتدأ القول:{ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} أما النهي في هذه الآية عن اتخاذ الأيمان دخلا ، فهو نهي عن الحلف الكاذب خديعة وغشا ومكيدة بعهد كان يعتزم فعل أمر أو يظهر اعتزامه ويوثقه بيمين ، ولا يتجه إلى المعاهدة عليه ، فإن ذلك منهى عنه ، أو يؤكد كلامه عن أمر سابق باليمين وهو كاذب في يمينه ، فإذن اليمين في هذه الحال غش وخديعة ويكون ممن لا يطاع ولا يستمع إليه إذ يقول الله تعالى:{ ولا تطع كل حلاف مهين ( 10 ) هماز مشاء بنميم ( 11 )} [ القلم] .
وعلى ذلك يكون النهي عن اتخاذ الأيمان للغش والخديعة يشمل العهود والبيعات ويشمل توثيق يمين منعقدة لا ينوى التنفيذ فيها ، أو يمين غموس هو فيها كاذب ، كشهادات الزور ، ونحوها مما تتخذ اليمين للغش والخديعة ، وضياع الحقوق والدعاء الباطل وتأكيده بهذه الأيمان .
ولقد قال تعالى فيما يترتب على اتخاذ الأيمان الباطلة غشا وخديعة وتثبيتا للكذب{ فتزل قدم بعد ثبوتها} ، هذا تشبيه جيد وهو استعارة من قبيل تشبيه المعنوي بالحسي أي شبه الانحراف الديني الذي يؤدى إليه الأيمان الباطلة بعد الإسلام والاستظلال بظله كزلة القدم بعد ثبوتها قوية ، فمعنى الزلل الانتقال من الخير إلى الضرر .
{ وتذوقوا السوء} ، والسوء هو الأمر السيئ وشبه بالشيء الذي يذاق كأنه بعد أن ذاق حلاوة الإيمان ذاق السوء وهو الكفر ، ذلك لأن الأيمان الكاذبة تفسد اليقين ، وتضعف الإيمان بالحق ، وفوق ذلك إذا شاعت ضاعت الثقة بين الناس ، وصار الناس لا يؤمنون بشيء ، وإن ذلك يؤدى إلى الضلال ، والضلال يؤدى إلى الصد عن الحق ، والحق هو سبيل الله المستقيم ، وصراطه الهادي ؛ ولذا قال تعالى:{ وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله} فإنه لا يضيع الحق ولا يسير الناس في ضلال من أوروهم إلا الكذب ، فإذا وثق بأيمان فاجرة كان الصد عنه بل ضياعه .
ولذا قال تعالى في عقابه:{ ولكم عذاب عظيم} ، أي كبير شديد ونكر لإفادة أنه عظيم أبلغ العظم لا يعرف مقداره ، ونكرت{ قدم} وأفردت لأنه تتعدد الأقدام الزالة بتعدد الأيمان ،