وإذا كان الإسراف منهيا عنه ، فالبخل أيضا منهى عنه ، والاعتدال هو المطلوب ولا يكلف إنسان ما لا يقدر عليه ، ولذا قال تعالى:
{ وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا ( 28 )} .
الإعراض عن العطاء ألا يعطى ، ولا يمنع بل يسكت كأنه المعرض ، ولا يستحسن المنع ، لأن المنع فيه إيئاس من العطاء ، ولا يريد ذو المروءة ألا يلقى اليأس والرد القاطع المؤيس في نفس طالب ، ولكنه لا يعطى عجزا ، أو لعدم استحقاق الطالب ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، ومن وراء خطابه خطاب أمته ، والآية تأديب كريم وتوجيه إلى ما يكون عندما لا يكون مال يجب العطاء منه ، أو عندما لا يكون موجب للعطاء .
و ( إما ) هي ( إن ) المدغمة في ( ما ) التي تفيد توكيد الإعراض بتوكيد حاله أو توكيد موجبه ، ولذلك كانت نون التوكيد الثقيلة ، كما تكون عند القسم .
وفي قوله تعالى:{ ابتغاء رحمة من ربك ترجوها} تخريجات ثلاثة ، وكلها يؤدى إلى معنى سليم في ذاته:
التخريج الأول:أن يكون{ ابتغاء} للإعراض أي أن الإعراض لتبتغي رحمة بهم من ربك ترجوها ؛ كأن ينفقوها في معصية أو خمر ، فالرحمة التي يبتغيها بالإعراض هي منعهم من المعاصي أو عدم تسهيلها لهم ، بعدم المعاونة عليها ، وهذا حسن في ذاته ، وربما يكون بعيدا بالنسبة للمسكين وابن السبيل ، وهو القريب المنقطع عن ماله ، وقد يكون مقصودا بالنسبة للقريب ، وأولئك هم موضوع الإعراض ، لأن الضمير في قوله تعالى:{ وإما تعرضن عنهم} يعود إلى هؤلاء .
التخريج الثاني:أن يكون قوله تعالى:{ ابتغاء رحمة من ربك ترجوها} متعلقا بجواب الشرط ، أي فقل لهم قولا ميسورا طلبا لرحمة من ربك ترجوها ، برجاء يسر بعد يسر ، أو لأن الجواب الجميل عند الإعراض فيه رحمة بهم لا تقل عن رحمة العطاء .
والتخريج الثالث:أن يكون قوله تعالى:{ ابتغاء رحمة من ربك ترجوها} متعلقا بالشرط لا بالجواب ، على أن يكون المعنى هكذا:إما تعرضن عنهم لفقد القدرة على العطاء مع رجاء رزق هو رحمة من ربك ترجوها ، لتعطيهم عند تحقيق الرجاء وهذا هو أقربها ؛ إذ مؤداها أنك ترجوا رزقا ، وقد طلب منك العطاء في وقت لا مال معك ، فلا تردهم ردا قاطعا مانعا ، رجاء الرزق .
وجواب الشرط{ فقل لهم قولا ميسورا} ، أي قولا سهلا لينا من غير جفوة ، بل في عطف يدينهم ولا يبعدهم ، والميسور بوصف اسم المفعول من يسر ، بالبناء للمجهول كسعد في قوله:{ وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها . . .( 108 )} [ هود] والقول الميسور لا يكون فيه قطع عن العطاء بل فيه رجاء لهم ، كقوله له يسر الله لي ولكم ، أو أعطاني الله وأعطاكم .