وبعد أن نهى سبحانه عن التبذير ، وأمر بالعطاء أمر بالاعتدال فقال:
{ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ( 29 )} .
معنى النهي في قوله تعالى:{ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} ، نهى عن البخل بأبلغ تعبير ، وفيه استعارة ، وهو تشبيه البخيل بمن شد يده بغل من حديد إلى عنقه ، فلا تمتد بعطاء قط ، ولا تستطيع سد حاجة معوز ، ولا إمداد مستغيث بقوت ، والجامع في التشبيه هو عدم العطاء ؛ لأن البخيل غله بخله فلم يعط ، والمشدود شدت يده فلا تتحرك ، والبخل يؤدى إلى الذم من الناس .
وقوله تعالى:{ ولا تبسطها كل البسط} ومعنى بسط اليد فتحها بحيث لا تقبض شيئا يستولي على ما فيها من يستحق ومن لا يستحق فلا ينضبط عطاؤه ، بل ينفق من غير ضابط يضبط ، وقد شبه المسرف بمن تبسط يده يؤخذ ما فيها من غير إرادة صاحبها ومن غير تقديره ، ومن غير تعرف من يستحق فيعطيه ، ومن لا يستحق فيمنعها ، بجامع ضياع المال من غير إرادة حكيمة مقدرة ، تضع الندى في موضع المندى ، وتمنع من يستحق المنع .
وقد بين الله تعالى نتيجة البخل والإسراف ، فقال تعالت كلماته ،{ فتقعد ملوما محسورا} الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، وما قبلها هو البخل والإسراف ، فقوله تعالى:{ فتقعد ملوما محسورا} ، و( تقعد ) هنا أي تصير في حال قاعدا فيها ملوما على بخلك ، محسورا بضياع مالك في غير حقه ، ففي الكلام لف ونشر مرتب ، كما قال ابن كثير:أي فيكون ملوما في حال البخل ، ومحسورا في حال الإسراف ،ومحسورا ، أي أصابته الحسرة على ضياع ما في يده ، وصيرورته فقيرا بعد أن كان غنيا ، ونقول محسورا من حسر في السفر لا يستطيع الحركة ، ويكون في الكلام تشبيه حال من أصبح لا مال له بحال المحسور في السفر ، الذي انقطع عن أهله ، كما انقطع هذا عن ماله .
أو نقول إنه محسور ، أي كليل عاجز كالدابة المحسورة العاجزة ، كما في قوله تعالى:{ ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ( 4 )} [ الملك] ، أي كليل .
والواقع أن الإسراف يجعل المسرف في حسرة على ماله الذي أضاعه يجعله مقطوعا عما كان له من مال كالمسرف المحسور ويجعله كليلا متبعا ؛ لأن الله أعطاه رزقا فأضاعه .
روى في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما من يوم يصبح العباد إلا وملكان ينزلان من السماء يقول أحدهما:اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر:اللهم أعط ممسكا تلفا"{[1426]} .