وإن الله سبحانه بين حق القرابة ، وحق الضعفاء من المساكين وأبناء السبيل ، ثم بين بعد ذلك من يجتمع فيهم أحيانا حق القرابة والضعف ، وأحيانا لا تكون لهم قرابة راحمة ، بل يكونون في رحمة الله ، والجماعة تكنفهم ، فقال تعالى:
{ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا العهد إن العهد كان مسئولا ( 34 )} .
اليتيم إما أن يكون قوة بانية في الجماعات أو قوة هادمة ، فإن روعى حق رعاية ، وحوفظ عليه بالصيانة والتربية والتنشئة نشأة صالحة يحس بأن من حوله يرعاه ، ويكلؤه ويحميه نشأ محبا رحيما بغيره ، لأنه عاش برحمة غيره ، وإن نشأ في بيت لا يؤنسه ولا يكرمه ، ولا يعطيه محبة ورفقة نشأ عدوا للجماعة ، وكان فيه ما يسمى عقدة النفس ، أو مركب النقص ، ولذا عنى به الإسلام أبلغ عناية بنصوص القرآن الكريم مثل قوله تعالى:{ فأما اليتيم فلا تقهر ( 9 )} [ الضحى] ، وقوله تعالى:{. . .ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح . . .( 220 )} [ البقرة] ، وترى القرآن الكريم قد حث على المحافظة لأن المخالطة مع الإكرام تؤنسهم وتبعد عنهم الوحشة ، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"خير البيوت بيت يكرم فيه يتيم وشر البيوت بيت يقهر فيه يتيم"{[1433]} .
وإن اليتيم إن كان فقيرا كان في رحمة المجتمع بأمر الله تعالى ، ولقد قال تعالى:{ فلا اقتحم العقبة ( 11 ) وما أدراك ما العقبة ( 12 ) فك رقبة ( 13 ) أو إطعام في يوم ذي مسبغة ( 14 ) يتيما ذا مقربة ( 15 ) أو مسكينا ذا متربة ( 16 ) ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ( 17 )} [ البلد] .
وإذا كان اليتيم ذا مال ، تهافت عليه الطامعون ، كما يتهافت الذباب على الطعام الحلو الذي لا حامى له ، فتقعد نفس اليتيم بما يحس له من طمع الناس ، وأكلهم ماله أكلا لما ، ويحس في مذأبة لئام ، ولأنه يناله الحرمان والقهر ، وهو ذو مال ، ولذا نهى الله تعالى عن أخذ ماله ووجوب رعايته ، والمحافظة عليه ، ولذا قال تعالى:{ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} ونهى سبحانه عن القرب من ماله إلا بالتي هي أحسن ، وذلك يتضمن ثلاثة أمور:
الأمر الأول:ألا يأكله أو ينهبه أو يأخذ بغير حق ، وإنه لضعف يسهل أخذ ماله من غير حسيب إلا الله .
الأمر الثاني:أنه إذا قربه يقربه بالتي هي أحسن أي بالطريقة التي أحسن ، وأدعى لحفظه ، وذلك بالمحافظة عليها وإعطائها اليتامى في وقت قدرتهم على إدارتهم ، كما قال تعالى:{ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم . . .( 6 )} [ النساء] .
الأمر الثالث:أن يعمل على تنميتها ، فإن ذلك من الطريقة التي هي أحسن ، وأن يدفع زكاة أمواله ، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"اتجروا في مال اليتيم حتى لا تأكله الصدقة"{[1434]} .
نهايته أن يبلغ أشده ، ويؤنس رشده ، ويختلف ذلك باختلاف العصور والمعاملات ، فيبلغ الرشد حيث لا تكون المعاملات معقدة بحجر كبلوغ النكاح ، ثم تعلو سن الرشد كلما تعقدت المعاملات وهذا ما يرمى إليه قوله تعالى:{ حتى يبلغ أشده} ، أي أعلى قواه العقلية البدنية ويستطيع أن يدير ماله بنفسه من غير رقابة ، والأشد هو القوة العالية على صيغة الجمع من غير مفرد وقيل له مفرد وهو شدة بمعنى قوة ولكن لم يعهد جمع فعلة على افعل ، وقيل يجمع على أشد مثل كلب وأكلب .
وأطلقت كلمة أشد على بلوغ الأربعين ، كما في قوله تعالى:{. . .حتى إذا بلغ أشده أربعين سنة . . .( 15 )} [ الأحقاف] ، وهي التي تجمد فيها العادات والتقاليد ويعلو صاحبها عن الردع ، ولذا قال بعده:{. . .وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي . . .( 15 )} [ الأحقاف] .
ولقد قال في ذلك الأصفهاني:"إن الإنسان إذا بلغ هذا القدر يتقوى خلقه الذي هو عليه ، فلا يكاد يزايله بعد ذلك". وما أحسن ما قاله الشاعر:
إذا المرء في الأربعين ولم يكن له دون ما يهوى حياء ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى وإن جر أسباب الحياة له العمر
وقد قرن سبحانه النهي عن القرب من مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن بالأمر بالوفاء بالعهد فقال سبحانه وتعالى:{ وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا} ، العهد هو عهد الله تعالى بالإيمان به والقيام بحق التكليف ، والعهد الذي يعاهد الناس عليه في معاهدة أو عقد أو غير ذلك مما يرتبط به أمام الناس موثقا العهد بيمين الله تعالى أو غير موثق ، وعلل الأمر بقوله تعالى:{ إن العهد كان مسئولا} ، أي أنه يسأل إذا نكث فيه ، ويسأل إذا لم يوف به على الوجه الكامل وهو تحت رقابة الله تعالى وكفالته ، فلا يصح التفريط فيه ، وقد بينا طلب الإسلام للوفاء بالعهد في قوله:{ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ( 91 )} [ النحل] .
وقد يسال سائل لماذا اجتمع الأمر بالأمر بالوفاء بالعهد مع النهي عن قرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن في آية واحدة ؟ ونقول:إن ذلك يشير أولا أن اليتيم مع كافلة كأنه في عهد أمانة عاهد الله تعالى عليه فلا يضيع ذلك العهد ، ويشير ثانيا إلى أن العقد في مال اليتيم يجب الوفاء به كما يجب الوفاء في مال غيره ، ويشير ثالثا إلى أنه مسئول أمام الله عما فعل ف مال اليتيم ، والله أعلم .