/م31
رابعاً: الآية التي بعدها تشير إلى حفظ مال اليتيم ،والملاحظ أنَّ الآية استخدمت نفس أُسلوب الآية التي سبقتها ،فلم تقل: لا تأكلوا مال اليتيم وحسب ،وإِنّما قالت: ( ولا تقربوا مال اليتيم ) .
وفي هذا التعبير تأكيد على حرمة مال اليتيم .ولكن قد تكون هذه الآية حجة لبعض الجهلاء الذين سيتركون مال اليتامي يُهدر ويكون عرضة للحوادث بدون أن يكون عليه قيّم ،لذلك استثنت بقوله: ( إِلاّ بالتي هي أحسن ) .وبناء على هذا الاستثناء يمكن التصرف بأموال اليتامى بشرط حفظ هذه الأموال ،وتنميتها وتكثيرها .وهذا الوضع يستمر إلى أن يبلغ اليتيم سنّ الرشد ويستطيع فكرياً واقتصادياً أن يكون قيماً على نفسه وأمواله ( حتى يبلغ أشدّه ) .
«أشدّ » مأخوذة مِن «شدّ » على وزن «جدّ » وهي بمعنى «العقدة المحكمة » ثمّ توسع المعنى فيما بعد ليشمل أي نوع مِن القوة الروحية والجسمية .والمقصود من كلمة «أشد » في الآية هو الوصول إلى مرحلة البلوغ .ولكن ليس البلوغ الجسمي وحسب ،وإِنّما الرشد الفكري والقدرة الاقتصادية التي تؤهل اليتيم لأن يحفظ أمواله .اختيار كلمة «أشد » في الآية هو لتحقيق كل هذه المعاني مجتمعة ،والتي يمكن اختيارها بالتجربة .
الأيتام ظاهرة طبيعية في أي مجتمع ،ووجودهم يكون تبعاً لحوادث مختلفة يمر بها المجتمع ،والدوافع الإِنسانية تفرض رعاية هؤلاء اليتامى من قبل الخيّرين والمحسنين في المجتمع ،والإِسلام يحث على رعاية الأيتام ،وقد تحدثنا عن هذا الأمر مُفصلا في الآية ( 2 ) مِن سورة النساء .
والشيء الذي نريد أن نضيفهُ هنا هو أن بعض الرّوايات والأحاديث الإِسلامية وسّعت في مفهوم اليتيم ليشمل الأفراد الذين انقطعوا عن إِمامهم وقائدهم ،ولا يصل صوت الحق إِليهم .وهذا المعنى نوع مِن التوسع في المفهوم واستفادة معنوية مِن حكم مادي .
خامساً: تشير الآية بعد ذلك إلى الوفاء بالعهد فتقول: ( وأوفوا بالعهد إِنَّ العهد كان مسؤولا ) .إِنَّ الكثير مِن العلاقات الاجتماعية وخطوط النظام الاقتصادي والمسائل السياسية قائمة على محور العهود ،بحيث إِذا ضعف هذا المحور وانهارت الثقة بين الناس ،فسينهار النظام الاجتماعي وستحل الفوضى ،ولهذا السبب تؤكّد الآيات القرآنيةبقوّةعلى قضية الوفاء بالعهود .
«العهد » لهُ معان واسعة ،فهو يشمل العهود والمواثيق الخاصة بين الأفراد في القضايا الاقتصادية والمعاشية ،وفي العمل والزواج ،وهو يشمل أيضاً المواثيق والمعاهدات بين الحكومات والشعوب ،وفوق ذلك فإِنَّ العهد يشير إلى ميثاق الأُمم مع اللّه ورسوله وكتبه ،وكذلك العكس ،أي التزام هؤلاء بالعهد أمام الناس{[2206]} .