القرآن هو النعمة الكبرى كما هو المعجزة الكبرى ففيه شفاء للناس ورحمة وهداية وموعظة للمؤمنين ، ومن كانت عنده هذه النعمة يريد أن ينتفع بها الناس ، وأن يكون مصدر هذه الرحمة إليهم ، ولذلك كان حفيا بأن يؤمنوا ، ويحسب أن كفرهم ربما يرجع إلى نقص في تبليغه لا إلى نقص في نفوسهم ، ولذلك قال تعالى:
{ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا 6} .
الفاء تنبئ عن تقدير قولي مطوي ، معناه إذا كنت حريصا على إيمانهم فلعلك باخع نفسك إلخ . . . ، والبخع:جهد النفس حتى تتلف ، وباخع نفسك ، أي مؤدي بها إلى التلف ومهلكها من شدة همك وتحميل نفسك ما لا حاجة إلى تحميله{ على آثارهم} ، أي على آثار توليهم ، لأنك لا تتوقعه ، إذ إن نضوح الدليل ووضوح الصدق وقوة الإعجاز يجعلك تتوقع إيمانا ، فجاء إعراضا وتوليا عن الحق البين وقوله تعالى:{ على آثارهم} فيه استعارة وترشيح لها ، كأنهم محبوب يفارقك فيدفع الفراق إلى ألم ولوعة كأنه باخع نفسه لهذا الألم ولذلك الفراق ، وأنه يبرح به البعد و الفراق حتى يكاد يبخع نفسه ، هذا تخريج الزمخشري أو معناه في قوله تعالى:{ فلعلك باخع نفسك على آثارهم} وهو معقول في ذاته وربما يكون أقرب من هذا التخريج أن تقول لعلك باخع نفسك على آثارهم توليهم وإعراضهم ودخولهم النار{ إن لم يؤمنوا بهذا الحديث} ، والحديث هو القرآن الكريم ، كما قال تعالى:{ الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله . . . 23} .
والإشارة في قوله سبحانه:{ بهذا الحديث} إشارة إلى ما سبق في قوله تعالى:{ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب} فهو كتاب الله الذي سجّلت فيه شرائعه ، وهو حديث الله إلى رسوله وإلى خلقه المؤمنين ، بل إلى الخليفة أجمعين .
و( لعل ) معناها الرجاء ، والرجاء ما يتوقع وقوعه سواء أكان مرغوبا أن كان مرهوبا ، فهو الأمر المتوقع على كلتا حاليه ، وهو هنا يبين الله تعالى لنبيه أن حاله حال من يتوقع منه بخع نفسه{ إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} و{ أسفا}مفعول لأجله ، أي يبخع نفسه همّا وحزنا إن لم يؤمنوا ، كقوله تعالى:{ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين 3} ( الشعراء ) والأسف هو الهم الشديد الذي لا يذهب ، بل يبقى كقوله:{. . .غضبان أسفا . . . 150} ( الأعراف ) ، أي مهموما همّا يسكن في القلب ولا يكون كالغضب يعرض ثم يزول ، كالزوبعة تثور ثم تهدأ ، أما الأسف والهمّ فيبقى .