التّفسير
العالم ساحة اختبار:
الآيات السابقة كانت تتحدَّث عن الرسالة وقيادة النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،لذا فإِنَّ أوّل آية نبحثها الآن ،تُشير إلى أحد أهم شروط القيادة ،ألا وهي الإِشفاق على الأُمّة فتقول: ( فلعلك باخعٌ نفسك على آثارهم إن لم يُؤمنوا بهذا الحديث أسفاً ) .
وهُنا يجب الانتباه إلى بعض الملاحظات:
أوّلاً: «باخع » مِن «بخع » على وزن ،«نَخَلَ » وهي بمعنى إِهلاك النفس مِن شدّة الحزن والغم .
ثانياً: كلمة «أسفاً » والتي تبيّن شدّة الحزن والغم ،هي تأكيد على هذا الموضوع .
ثالثاً: «آثار » جمع «أثر » وهي في الأصل تعني محل موضع القدم ،إِلاَّ أنَّ أي علامة تدل على شيء معين تُسَمّى أثراً .
إِنَّ الاستفادة مِن هذا التعبير في الآيات أعلاه تشير إلى ملاحظة لطيفة ،وهي أنَّ الإِنسان قد يُغادر في بعض الأحيان مكاناً ما ،ولكنَّ آثاره ستبقى بعده ،وتزول إِذا طالَ زمن المغادرة .فالآية تريد أن تقول: أنّك على قدر مِن الحزن والغم ولعدم إِيمانهم بحيث تريد أن تُهلك نفسك مِن شدّة الحزن قبل أن تُمحى آثارهم .
ويُحتمل أن يكون الغرض مِن الآثار أعمالهم وتصرفاتهم .
رابعاً: استخدام كلمة ( حديث ) للتعبير عن القرآن ،هو إِشارة إلى ما ورد من معارف جديدة في هذا الكتاب السماوي الكبير ،يعني أنَّ هؤلاء لم يُفكروا في أن يستفيدوا ويبحثوا في هذا الكتاب الجديد ذي المحتويات المستجدَّة .وهذا دليل على عدم المعرفة ،بحيث أنَّ الإِنسان بقدر قُربه مِن هذا الكتاب ،إِلاَّ أنَّهُ لا يلتفت إِليه .
خامساً: صفة الإِشفاق لدى القادة الإِلهيين .
نستفيد مِن الآيات القرآنية وتأريخ النبوات ،أنَّ القادة الإِلهيين كانوا يتألمون أكثر ممّا نتصور لضلال الناس ،وكانوا يريدون لهم الإِيمان والهداية .ويألمون عندما يُشاهدون العطاشى جالسين بجوار النبع الصافي ،ويأنون مِن شدّة العطش ،الأنبياء يبكون لهم ويجهدون أنفسهم ليلا ونهاراً ،ويبلغون سرّاً وجهاراً ،ويُنادون في المجتمع مِن أجل هداية الناس .إِنّهم يألمون بسبب ترك الناس للطريق الواضح إلى الطرق المسدودة ،هذا الألم يكاد يوصلهم في بعضِ الأحيان إلى حدِّ الموت .ولو لم يكن القادة بهذه الدرجة مِن الاهتمام لما انطبق عليهم المفهوم العميق للقائد .
وبالنسبة لرسول الهدى( صلى الله عليه وآله وسلم ) كانت تصل به حالة الحزن والشفقة إلى مرحلة خطرة على حياته بحيث أنَّ الله تبارك وتعالى يُسلّيه .
فى سورة الشعراء نقرأ في الآيتين ( 3 ،4 ) قوله تعالى ( لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين إِن نشأ ننزل عليهم مِن السماء آية فظلَّت أعناقهم لها خاضعين ) .