{بَاخِعٌ}: قاتل ،مهلك
الرسول( ص ) وحسرته على الكفار
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثارِهِمْ} الخطاب لرسول الله( ص ) الذي كان يعيش الألم والحسرة أمام بعد المشركين وإعراضهم عن القرآن وعن الدعوة إلى الله ،وهذه المواقف تمثل خطوات المشركين العملية على صعيد خط الرسالة ،تماماً كما هي الآثار التي تتركها أقدامهم على الطريق في حالة السّير .وربما تؤدي به هذه المشاعر السلبية الضاغطة إلى الهلاك ،عندما تتعاظم أو تتحول إلى عقدة وتساؤل دائم عن السبب في هذا الموقف المضاد ،وعن الضعف الذي يحيط بشخصه وبالساحة أمام قوة هؤلاء ،وعن أشياء كثيرةٍ قد تطوف في نفسه وتضغط على وجدانه ...{إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} والمراد به القرآن الذي أنزله الله عليه ،فتمتلىء روحه بالأسى والأسف لأنهم لم يستجيبوا لدعوة الإيمان به .
حسرة الرسول ( ص ) مظهر لكماله الإنساني
ونتساءل: هل هذا تعبيرٌ عن حالةٍ حقيقيةٍ في مشاعر النبي محمد ( ص ) ،وهل يتناسب الوضع الشعوري مع العصمة لديه ؟ونجيب بأن هذه المشاعر لا تمثل حالة نقص ،بل نجد فيها حالة كمالٍ إنسانيٍّ ،ذلك أنها تصدر عن حسٍّ إنسانيٍّ رهيفٍ ناتجٍ عن الشعور بالمسؤولية أمام الآخرين أيّاً كانوا ،فالنبي( ص ) يعي نفسه رسولاً للعالمين ،وبالتالي منقذاً لهم ،ولهذا فبقدر ما يجد نفسه معنيّاً بالذين يتبعونه ،يجد نفسه معنيّاً بالذين لم يتبعوه ،أمثال الجاحدين والكافرين ،لأن هؤلاء بحكم ما هم عليه ،يستحقون الإشفاق أكثر من غيرهم ،لأنهم سيسقطون في مهالك الكفر والطغيان لا محالة ،فليست هناك عقدةٌ ذاتيةٌ ،بل هي حالةٌ إنسانيةٌ رساليةٌ ،في المستوى الرفيع لروحية الإنسان تجاه الآخرين .
ثم ما الذي يمنع الرسول من الخضوع للحالات البشرية التي يعيشها كل الناس في مواقع الضعف البشري ،تماماً كما يمرض ويتألم ويموت ،لأن المشكلة فيه ليست هي نقاط الضعف الذاتية ،بل المشكلة هي تأثيرها على مستوى الشخصية الرسالية في حركته في الحياة ،في آفاق الوجدان أو الواقع .ولا مانع من أن يتأثر الإنسانالرسول ،كما يتأثر غيره ،بجحود الآخرين برسالته ،ويفرح بإقبالهم عليها ،لا سيَّما إذا كانت الرسالة لمصلحتهم ،ما يجعل هذا الانفعال متصلاً بالذات من جهةٍ ،وبالجانب الإنساني من حياة الناس من جهةٍ أخرى .
وقد جاء القرآن الكريم في كثيرٍ من آياته ،ليوضِّح للنبي طبيعة هذا الجحود وظروفه وأسبابه الطبيعية ،ما يجعله يشعر بأن المسألة لا تستحق هذا القدر الكبير من الاهتمام النفسي ،أو الشعور بالخطورة على مستوى حياة الناس أو الرسالة .
وإذا كان الخطاب موجهاً إلى الرسول( ص ) ،فإن الامتناع عن التأثر بهذا الموقف السلبيّ ،من قِبَل الكافرين ،موجٌّه إلى كل داعية لله وللإسلام ،بأن يعيش هذا الجوّ ،لئلا يقوده الانفعال السلبي إلى الوقوع في الإحباط واليأس والسقوط ...فإن هذا قد يكون ممتنعاً في شأن النبي( ص ) الذي تمنعه عصمته من ذلك ،ولكنه ليس ممتنعاً في الآخرين من الدعاة إلى الله ،الذين قد يسقطون تحت تأثير ضعفهم ،فيفقدون التوازن الفكري والعملي في مواجهة الحالات السلبية في الواقع .