{ فحملته فانتبذت به مكانا قصيّا 22} .
جاء في بعض الروايات أنها حملت بنفخ جبريل في بعض ثيابها ، فروى أن جبريل عليه السلام حين قال لها:{ كذلك قال ربك هو علي هين} نفخ في جيب درعها ، وعن ابن عباس أخذ جبريل ردن قميصها{[1466]} فنفخ فيه حملت من ساعتها بعيسى ، وإن هذا يتلاقى مع قوله في سورة الأنبياء:{ والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا . . . 91} فهو لم ينفخ في الفرج ، ولكن نفخ في مريم ذاتها ، وذلك بالنفخ في فتحات من قميصها ، وعلى أي حال الكلام في ذلك ليس ذا جداء ، فإن جبريل روح من الله تعالى وليست له خواص الآدمي ، بل له الخواص الروحية التي لا تتصل بالمادة .
قيل:كان الحمل بعيسى ومريم في نحو الثالثة عشرة من عمرها ، ولا يهمنا مقدار سنها ، إنما يهمنا أنها كانت عذراء وأنها حملت من غير زوج مطلقا ، بل جاء حملها أمرا خارقا لنظام الأسباب والمسببات الذي كان يؤمن به الفلاسفة ، ولا يؤمنون بأن الله فعّال لما يريد ، فجاءت ولادة عيسى
من غير أب أمرا خارقا لهذا النظام ، ولذا قال الشهرستاني:بحق إن عيسى بوجوده معجزة في ذاتها .
وعندما أحست بالحمل واعتزلت الناس وانفردت عنهم ، وانتبذتهم في مكان قصي بعيد وشددت في نبذهم وعدم الانغمار في جمعهم ، لأنها صارت تصاحب من نفسها من يؤنسها في وحدتها ، وهو الحمل الذي تسعد به كل امرأة في هذه الدنيا ، ولذا قال تعالى:{ فانتبذت به} ، أي انتبذت مصاحبه له{ مكانا قصيا} ،{ مكانا} ظرف ، أي في مكان{ قصيا} بعيد عن الناس حتى لا يروها فيقلقوها بفضولهم ، وفي الناس في كل العصور فضول ، يقولون فيه ما لا يعنيهم ولا يهمهم .
ولكن لابد من المواجهة عندما ترجع إليهم حاملة معها غلاما طاهرا زكيا ناميا .
ولم يذكر علماء الأخبار شيئا يتعلق بمدة حمله ، فكان ذلك على مجرى المعتاد في الحمل وهو تسعة أشهر حتى يأخذ الجنين أدواره كلها علقة ثم مضغة فعظاما ، ثم تكسى العظام لحما ، وكان الأمر الخارق للعادة أنه لم تكن نطفة في قرار مكين تولدت عنها العلقة ، والنفخ في القميص من روح الله جبريل لا يوجد نطفة ، ولكن روى عن ابن عباس – رضي الله عنهما- ما هو إلا أن حملت فوضعت في الحال ، قال القرطبي:لأن الله تعالى ذكر الانتباذ عقب الحمل ، ولعله يؤيد ذلك النظر العطف بالفاء في الحمل ثم في الانتباذ ثم في مجيء المخاض ، ولا مانع عندنا من قبول ذلك ، ولكن لا دليل عليه ، وإن صح يكون أمرا خارقا آخر ، ولم يذكر ما يدل عليه من القرآن ولا السنة المرفوعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .