وكانت –عليها السلام- قد انتبذت الناس في ذلك المكان القصي ، حتى اضطررت إلى الخروج منه وذلك بسبب المخاض الذي هو مقدمة الولادة ، ولذا قال تعالى:
{ فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا 23 فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا 24 وهزّي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا25 فكلي واشربي وقرّي عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا 26}
{ فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا 23} .
من إخباره إلى حمله على المجيء وساقه إليه غير مختار فيه ، ولذا كان معناه ألجأها المخاض وهو الطلق عند النساء أو مقدمة الولادة ، وكان إلجاؤها إلى جذع النخلة ، لأنها احتاجت إلى شيء تعتمد عليه وتتعلق به لشدة الحمل وكره الولادة كما قال في الولادة وصعوبتها{. . .ووضعته كرها . . . 15} ( الأحقاف ) ، وهو صعوبتها واحتمالها بعسر شديد ، وهو في ذاته كره ، ولكن الوالدة تتحمله لمحبة الولد وشغفها فيه .
وجذع النخلة عادة يكون يابسا سواء أكانت النخلة مثمرة أم كانت غير مثمرة ، وسواء أكانت في أرض زراعية أم كانت غير زراعية ، والنخل يكون في الأرض غير الزراعية ، و"أل"للجنس كقولك:ادخل السوق واشتر شيئا ، فليس ثمة سوق معينة ، ولا تكون للعهد ، لأنه لم تذكر من قبل شجرة ، ولا يكون في الذهن شجرة معينة .
وقد كانت مريم العذراء البتول في كربين:
الكرب الأول:احتملته ورضيته بحكم الفطرة وهو كره الولادة كما ذكرنا .
والكرب الثاني:العار الذي زعمته ويستقبلها ، فإنها البريئة الطاهرة تستقبل اتهاما وهي البريئة وذلك عبؤه على البريء ثقيل ، ولذا قالت:{ يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا} .
تنادي "ليت"الدالة على التمني ، وكأنها تقول إنها تتمنى الموت ، وتنادي أداة تمنى الموت قبل هذا ، لأن ذلك وقت تمني الموت فرارا من عار الاتهام الظالم ، وهي البريئة الطاهرة التي اصطفاها رب العالمين .
وأنها ما قالت الذي قالته تململا مما أراد رب العالمين لها من كرامة ، وإنما كان ذلك استشعارا من ضعفها وصعوبة الاحتمال ، وإن كانت راضية بما قضى الله وبما أمر ، غير خالعة ربقة ، ولا متمردة على طاعة ،{ وكنت نسيا منسيا} ، المنسي والنسي:الشيء المنسي ، كذبح الشيء المذبوح ، نقص الشيء المنقوص ، فالنسي الشيء الذي من شأنه أن ينسى ، لأنه مهمل في ذاته ، والمنسى بالفعل .
وقد قال الزمخشري في هذا الأمر الذي كانت عليه العذراء البتول- محللا الألفاظ – وهو إمام البلاغة:المنسى ما من شأنه أن ينسى ويطرح وينسى كخرقة الطامث ونحوها ، كالذبح اسم ما شأنه أن يذبح ، قال تعالى:{ وفديناه بذبح عظيم 107} ( الصافات ) ، وعن يونس:العرب إذا ارتحلوا عن الدار قالوا:انظروا أنساؤكم أي الشيء اليسير نحو العصا والقدح .
تمنت لو كانت شيئا تافها لا يؤبه له من شأنه وحقه أن ينسى في العادة ، وقد نسى وطرح فوجد فيه النسيان الذي هو من حقه ، وذلك لما لحقها من فرط الحياء ( أي الحال التي توجب الاستحياء ) من الناس على حكم العادة البشرية لا كراهة لحكم الله ، أو لشدة التكليف عليها إذ بهتوها ، وهي عارفة ببراءة الساحة وبضد ما قرفت به ، من اختصاص الله إياها بغاية الإجلال والإكرام ، لأنه مقام دحض{[1467]} قلّما تثبت فيه الأقدام:أن تعرف اغتباطك بأمر عظيم ، وفضل باهر تستحق به المدح ، ويستوجب التعظيم ، ثم تراه عند الناس لجهلهم عيبا يعاب به أو يعنف بسببه ، أو لخوفها على الناس أن يعصوا الله تعالى بسببها .