وإن إغواء الشيطان لا حدود له فمخارفه مختلفة متكاثرة وصراط الله المستقيم واحد ، ولذا يغري أتباعه باتباع الباطل بكل الطرق يغريهم بالإشراك هم وآباؤهم ، ويغريهم بتحريم ما أحل الله هم وآباؤهم ، ويظهره لهم كأنه الحق جليا بينا ، ولقد قال تعالى في ذلك:{ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} .
نهانا سبحانه وتعالى أن نتبع خطوات الشيطان ، وبين لنا أنه يأمرنا بالسوء والفحشاء وأن نفتري على الله الكذب ، وأشار سبحانه وتعالى إلى أثره في إغواء المشركين ، وبين سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة إغواء شديدا آخر لهم ، وهو اتباع الآباء من غير فكر ولا عقل يتدبر فعلهم وأقوالهم ، ويتدبر ما أثر عنهم أهو حق فيتبع أم باطل فينبذ ، أو هو صدق فيقبل أم كذب فيرد ، أو هو حسن فيقتدى بهم أم هو قبيح عليهم فينكره عليهم ، لا يفكرون في شيء من ذلك ، بل إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ، وألفينا معناها وجدنا آباء كانوا واستمروا إلى أن جاءوا وهم تابعون لهم . يقال لهم اتبعوا ما أنزل الله ، وما أنزل الله تعالى يحمل حجته في ذاته ، لأنه أنزله الله ذو الجلال الخالق الرزاق ذو القوة المتين ، فدليله معه لأنه من عند الله وكفى بهذا دليلا مبينا .
ولكنهم يعرضون عن هذا الأمر الموجه للحق إلى باطل لا دليل فيه ،{ قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا} ، يضربون عن طلب اتباع الله ويستبدلون به اتباع ما وجدوا عليه آباءهم من غير حجة قائمة هادية ، ولا دليل مرشد . إن اتباع الآباء وحده ليس حجة ، وكونهم استمروا عليه ليس دليلا مرشدا ، وأن اتباع الآباء إنما يكون حجة إذا كان عن علم وبينة ، وإذا علمتم أنه كان عن علم وبينة فيكون اتباعهم للحق في ذاته لا لآبائهم لمجرد أنهم آباؤهم ، ولكنهم يتبعونهم من غير بينة ولا دليل ، بل لمجرد التقليد الذي لا يهدي ولا يرشد ، ولذا قال تعالى منددا بتقليدهم الذي أضلهم:{ أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} .
الهمزة للاستفهام التوبيخي الذي هو إنكار ما وقع منهم فقد اتبعوا على غير عقل يوجه ، ولا على اعتقاد هداية قائمة ، والهمزة داخلة على فعل محذوف ، أي أيتبعونهم ، ولو كانوا لا يعقلون ولا يدركون بعقولهم أي شيء في هذا الاتباع ، يتبعونهم في إشراكهم بالله ، ويتبعونهم في تحريم ما أحل الله من طيبات من غير أي سبب موجب ، ولا أي دليل مرشد ، ولا هو فيه هداية ، بل فيه ضلال مبين ، لم يكن عند آبائهم دليل على ما هم عليه عقلوه ، ولم يكن عندهم داعية حق يهتدون بهديه ، وذكر قوله "لا يهتدون"بجوار قوله "لا يعقلون"لاختلاف موضوعهما ، فموضوع العقل تفكر وتدبر وطريقه المنطق والبرهان ، وموضوع الاهتداء اتباع لهاد مرشد كنبي مرسل ، فما كان لهم عقل مفكر ولا هاد يهتدون بهديه . ولقد قسم الغزالي أهل الإيمان إلى قسمين:قسم يدرك بالبرهان ويسير بالقسط المستقيم ، وقسم يطمئن قلبه إلى الحق ويرتضيه بإشراق قلبه بنور الحكمة والفطرة المستقيمة ، أو باتباع هاد يهديه ويوجهه ويهتدي به ، وقد فقد هؤلاء الأمرين فليس لهم عقل يتدبر ولا هاد يهدي إلى التي هي أقوم ، ولذلك استنكر الله تعالى على المشركين اتباع آبائهم في الشرك وتحريم ما أحل الله تعالى حيث حرموه ونسبوا التحريم إلى الله تعالى من غير حجة ولا سلطان مبين .
وإن ذلك مثل قوله تعالى في موضع آخر من الذكر الحكيم:{ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا . . . 104} [ المائدة] ومثل قوله تعالى عنهم:{ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون 23} [ الزخرف] .
وإن هذا النص السامي الكريم يدل على أن التقليد في العقائد لا يجوز ، وشذ من قال غير ذلك ، وعلى الذين لا يعرفون دليلا أن يسألوا أهل العلم بذلك كما قال تعالى:{ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون 43} [ النحل] ، ولذا يجب على العلماء أن يبينوا للناس عقائدهم لا بطريق علم الكلام ، بل بطريق القرآن ، فدليل القرآن هو الغذاء والدواء الشافي ، وأدلة علم الكلام كالدواء الذي يعطى بقدر لمن أصيبوا في عقيدتهم .