[ زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة] بعد أن بين سبحانه أن الذين كفروا قد جحدوا بالله ، وقد كثرت البينات ، وقامت الدلائل القاطعة ، بين السبب في غشيان الضلال في قلوبهم ، وهو أن الدنيا زينت لهم فحسبوها كل شيء وأنساهم ذلك ذكر الآخرة وما فيها من حساب وعقاب ، بل إنه بسبب ضيق عقولهم انحصر تفكيرهم في هذه ، وحسبوا أن لا بعث ولا نشور ، وأنكروا ذلك إنكارا تاما ، ولذلك قال سبحانه:[ زين للذين كفروا الحياة الدنيا] فهي كل شيء في تفكيرهم وقد دفعهم إلى اللجاجة في الكفر والجحود أن وجدوا من لم يؤتوا حظا من الدنيا ، وهم الضعفاء والفقراء والعبيد هم الذين سبقوا بالإيمان ، ولذلك سخروا من الحق والمؤمنين إذ علموا في أنفسهم أن التقدير عند الله هو التقدير بحال الدنيا من مال وجاه ، وحسب ونسب ، لا بمقدار الحق في ذاته ، ولم يعلموا أن الله لا ينظر إلى الأحساب والأموال والصور ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال{[258]} ، ولذلك سخروا من الذين أحبوا الإيمان وأهله وقالوا:أهؤلاء الذين سبقونا بالإيمان ؟ ولذلك قال سبحانه:[ و يسخرون من الذين آمنوا] يستهزئون بالذين آمنوا . ولقد قال عطاء في هذه الآية:نزلت في المنافقين:عبد الله ابن أبي وأصحابه ، كانوا يتنعمون في الدنيا ، ويسخرون من ضعفاء المؤمنين ، وفقراء المهاجرين ، ويقولون:انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم .
و إن أهل الحق دائما ليسوا ممن نالوا حظا كبيرا في الدنيا ، فإن أولئك أقرب إلى بذل النفوس في سبيله بعد الإيمان ، والعبر كل يوم قائمة شاهدة مثبتة .
و لقد ذكر سبحانه منزلة المؤمنين الذين يستهزأ بهم فقال:[ و الذين اتقوا فوقهم] الذين آمنوا واتقوا الله فوق أولئك الجاهلين الجاحدين الذين كفروا بالآخرة ، وآمنوا الإيمان كله بالدنيا ، ولا ارتباط بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة ، بل قد يكون محروم الدنيا هو المنعم في الآخرة ، والجزاء على الأعمال لا على الأموال ، وعلى القلوب لا على الأحساب ، وعلى التقوى لا على الأنساب ، ولذلك قال سبحانه:[ و الله يرزق من يشاء بغير حساب] فالله سبحانه هو الرزاق ذو القوة المتين ، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء ، ولا أحد يحاسبه ، وليس عطاؤه دليل رضاه ، فقد يعطي الكافر ، وهو غير راض عنه كما قال تعالى:[ و لولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمان لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون33] ( الزخرف ) والرزق في الدنيا منوط بأسباب دنيوية يجيدها الكافر كما قد يجيدها المؤمن ، ومن سلك سبيلها وطلبها من مظانها رزقه الله ، مؤمنا كان أو كافرا ، ومن تنكب الطريق ، لم يرزقه الله ، وله فوق الأسباب تصريف الحكيم وتدبير العليم سبحانه ، إنه على ما يشاء قدير .
و الخطأ أن يجعل تقدير الناس بأموالهم لا بأعمالهم ، وبمظاهرهم لا بنفعهم ، روي أن رسول الله كان بين أصحابه فمر بهم رجل فقال النبي صلى الله عليهوسلم لرجل جالس عنده:"ما رأيك في هذا "؟ فقال:رجل من أشراف الناس ، هذا والله حري إن خطب أن ينكح ، وإن شفع أن يشفع ، وإن تكلم أن يسمع فسكت رسول الله ، ثم مر رجل آخر فقال رسول الله صلى الله عليهوسلم:"ما رأيك في هذا "؟ فقال يا رسول الله إن هذا رجل منفقراء المسلمين ، هذا حري إن خطب ألا ينكح ، وإن شفع ألا يشفع ، وإن قال لا يسمع لقوله ، فقال صلى الله عليهوسلم:"هذا خير من ملء الأرض مثل هذا "{[259]} .
وإن المال الذي يضل العباد فيجعلهم يخطئون في تقدير الناس ، وتقطع به الأواصر ، لو قدره الناس حق قدره ، ولم يتجاوزوا به الحد ما كانت تلك الآفات ، ولو كان الناس يقدرون بفضائلهم لا بأموالهم وتساووا في الحقوق أمام القانون ما كان ذلك الألم الذي يمض الفقير ، وحسب الغني أن المال عبء عليه ، وانه ظل زائل ، وعرض حائل ، ولقد قال صلى الله عليهوسلم:"يقول ابن آدم مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، وما لبست فأبليت ، وما تصدقت فأمضيت ، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس "{[260]} والله سبحانه مالك الملك ذو الجلال والإكرام .